في سوريا ما بعد حكم عائلة الأسد، أصبح الإعلان عن المشاريع الاستثمارية جزءا ثابتا من المشهد الإعلامي الرسمي. ولا تزال الحكومة تروّج لهذه المبادرات، من العقارات الفاخرة إلى صفقات الطاقة والنقل، عبر مؤتمرات صحافية رفيعة المستوى واحتفالات تنقل على الهواء مباشرة.
وتعكس هذه الطفرة في الإعلانات حرص السلطات الانتقالية على إظهار وتيرة تقدم سريعة، مقدمة هذه المشاريع كدليل على أن البلاد بدأت تنهض من تحت أنقاض الحرب. غير أن هذه الاستثمارات الموعودة لم تُستقبَل بالترحاب من المجتمعات المحلية، على الرغم من الحاجة الماسة إلى إعادة الإعمار، بل تلقتها بالرفض الصريح.
ففي الأسابيع الأخيرة، تصدى سكان في حمص ودمشق لمشروعين استثماريين، بعد أن أبلغوا بهما عقب توقيع الاتفاقيات، ما لم يترك أمامهم سوى خيار وحيد: الاعتراض دفاعا عن مصالحهم. وكانت النتيجة سريعة؛ ألغي المشروع الأول بالكامل، فيما تقلص نطاق الثاني استجابة للاحتجاجات الشعبية.
ولا يمكن النظر إلى هذه الوقائع بوصفها نزاعات محلية متفرقة وحسب، بل ينبغي التعامل معها كإشارات تحذيرية تكشف عن خلل أعمق في نموذج إعادة الإعمار السوري، يتمثل في غياب التفاعل الحقيقي مع المجتمعات المعنية. ولضمان استدامة الإعمار، بات لزاما على المسؤولين والمستثمرين تبني نهج جديد يضع السوريين في صميم عملية إعادة البناء.
فقد قُدِّم مشروع "تطوير بوليفارد النصر"، الذي وُقِّع خلال مؤتمر استثماري رفيع المستوى في القصر الجمهوري في 8 أغسطس/آب، كأحد المشاريع البارزة في حمص بعد الحرب.
وكان المشروع الذي وُقّع مع شركة كويتية يملكها رجل أعمال سوري قد وعد بتحويل أجزاء من المدينة التي دمرتها الحرب إلى مركز حضري عصري. وعرضت المواد الترويجية تصورات لمشروع يعتمد على الطاقة المتجددة، ويتميز بتصميم صديق للبيئة، وهندسة معمارية عصرية.
لكن، وبدلا من الاحتفاء به، أثار المشروع استياء سكان حي القرابيص، أحد الأحياء المتأثرة بشكل مباشر. فقد تداخلت الأرض المخصصة لبوليفارد النصر مع أراضٍ سبق أن استولى عليها النظام لمبادرة أخرى مثيرة للجدل عُرفت باسم "حلم حمص".
وأثارت ذكرى التهجير السابق مخاوف عميقة من تكرار التجربة، مما أشعل احتجاجات اندلعت بعد وقت قصير من إعلان المشروع. ورغم ما قدمته الشركة المطورة والسلطات المحلية من تطمينات بشأن صون حقوق الملكية وتعويض السكان بشكل عادل، شعر كثير من الأهالي بأن المشروع لا يخدم تطلعاتهم. وفي 17 أغسطس/آب، وتحت ضغط شعبي متزايد، قررت الشركة المطورة استبعاد حي القرابيص من المشروع بالكامل.
وكان ذلك أول مشروع استثماري كبير يُجهَض بفعل المقاومة المدنية في مرحلة ما بعد الانتقال، لكنه لم يكن الأخير.
وفي التوقيت ذاته، فجّر مشروع استثماري في قلب العاصمة دمشق موجة غضب شعبي مشابهة. ففي حي أبو رمانة الراقي في العاصمة دمشق، تفاجأ السكان بأن جزءا من حديقة الجاحظ، إحدى آخر المساحات الخضراء المتبقية في العاصمة، على وشك أن يُسلَّم لمستثمر خاص.
في بلد يعاني فيه التماسك الاجتماعي من الهشاشة، فإن المضي قدما في تنفيذ مشاريع يقودها المستثمرون من دون موافقة المجتمعات المحلية لا يُعد مجرد قصر نظر، بل شكل من التهور
وقد عُرضت تفاصيل الخطة على لوحات إعلانية نُصبت عند مدخل الحديقة، تضمّنت رسومات لمقترح تطويري جديد. وشملت التصورات إقامة مقاهٍ، ومواقف سيارات مدفوعة الأجر، ومساحات مغلقة. وفيما قدّمت المحافظة المشروع باعتباره خطة تأهيل للمكان، رأى السكان فيه شكلا من أشكال الخصخصة المقنّعة.
وانتشر خبر المشروع كالنار في الهشيم، فما أسرع ما تداول السكان مستندات وصورا توضح التعديلات المقترحة، ما فجّر موجة غضب عارمة. وفي غضون ساعات، نظم الأهالي اعتصاما داخل الحديقة، ورفعت العائلات لافتات تطالب بالحفاظ على هذه المساحة العامة. وانتشرت مقاطع الفيديو للاحتجاجات بسرعة، فيما وقّع المئات على عريضة خلال أيام قليلة.
ولم يطل الأمر، فبعد 48 ساعة فقط، تراجعت السلطات. وعقدت المحافظة اجتماعا مع لجنة محلية، أعلنت فيه إلغاء خطة الاستثمار، متعهدة بإطلاق مشروع تأهيل تشاركي بالتنسيق مع ممثلي الحي. وقد حمل هذا الانتصار في حديقة الجاحظ رسالة واضحة: حتى في قلب دمشق، لا يزال بوسع المواطنين الدفاع عن حقهم في رسم ملامح الفضاء العام.
رغم تباين نطاق المشروعين في حمص ودمشق، إلا أنهما يكشفان عن الخلل نفسه: إذ تصاغ جهود إعادة الإعمار خلف أبواب مغلقة، وتعلن بأسلوب احتفالي، ثم تفرض على المجتمعات من دون أي تشاور يذكر.
صحيح أن استجابة السلطات في الحالتين كانت إيجابية في نهاية المطاف، ولبت مطالب السكان، في خطوة تعد تحولا ملموسا عن النهج السلطوي الذي ميز النظام السابق، غير أن هذه الوقائع في جوهرها تسلط الضوء على الحاجة الماسة إلى إعادة التفكير في أساليب التخطيط والتواصل التي تدار بها مشاريع إعادة الإعمار. إن غياب إشراك المجتمع المحلي ليس مجرد زلة عابرة، بل يكشف عن خلل ممنهج في طريقة إدارة الشأن العام. فقد افترض المسؤولون أن القبول الشعبي مضمون سلفا، وأقصوا السكان عن قرارات تمس حياتهم بشكل مباشر.
وبصرف النظر عن النوايا، فإن هذا النموذج المفروض من الأعلى لا يبني الثقة، بل يهدمها.
وفي بلد يعاني فيه التماسك الاجتماعي من الهشاشة، فإن المضي قدما في تنفيذ مشاريع يقودها المستثمرون من دون موافقة المجتمعات المحلية لا يُعد مجرد قصر نظر، بل شكل من التهور. فبدلا من أن توحّد هذه المشاريع الناس حول جهود التعافي، فإنها تدفعهم بعيدا عن مبادرات يُفترض أن تعيد إليهم حياتهم.
ويسلط الرفض الشعبي في حمص ودمشق الضوء على ما هو أعمق من مجرد فجوة بين التخطيط الرسمي واحتياجات السكان المحليين، إذ يكشف عن صعود قوة مدنية شعبية آخذة في التبلور. والأهم من ذلك، أنه يؤكد أن الناس يملكون حسا عميقا بالانتماء إلى أحيائهم، وأن العمل المدني قادر بالفعل على إحداث فرق في النتائج.
ولا ينبغي النظر إلى أشكال المقاومة هذه كعقبات تعرقل التقدم، بل كدلائل حيّة على أن المجتمعات السورية ليست مجرد متلقٍ سلبي لرؤى تُفرض عليها. فهي مستعدة للمشاركة، ويجب أن تُمنح دورا فعليا في صنع القرار. وحتى يتحقق ذلك، ستبقى ثابتة في دفاعها عن أحيائها، وحدائقها، ومستقبلها.
وتحتاج سوريا اليوم إلى استثمارات بشكل ملحّ، فبنيتها التحتية مدمّرة، واقتصادها يرزح تحت وطأة أزمة خانقة. لكن إعادة البناء لا ينبغي أن تقتصر على صبّ الإسمنت، بل يجب أن تتجاوز ذلك نحو ترميم الثقة بين المواطنين والمؤسسات التي يفترض أن تخدمهم. فالإعمار المادي من دون شرعية اجتماعية ليس سوى جهد فارغ المضمون.
أما بالنسبة للمستثمرين الأجانب والمؤسسات الدولية التي تراقب مسار تعافي سوريا، فعليهم أن يدركوا أمرا واضحا: المشاريع التي تفتقر إلى موافقة المجتمع محكوم عليها بالفشل. فالمساءلة ليست ترفا، بل الضمانة الوحيدة لتجنّب الإخفاق.
فعندما تُفهم مشاريع التطوير على أنها انتهاك للحقوق، وعندما يُنظر إلى تجديد حديقة كأنه عملية خصخصة، أو يُهدد مشروع سكني بتهجير العائلات، تكون النتيجة واضحة: الناس سيقاومون.
والعبرة واضحة: لا يمكن لإعادة الإعمار في سوريا أن تنجح دون التشاور المسبق مع المجتمعات المحلية، فالمشاريع لا تُفرض بعد توقيع العقود، بل تُبنى بالشراكة منذ البداية. فالإعمار الأخلاقي لا يكتفي بالتعويض، بل يقوم على الشفافية، والمساءلة، والمشاركة الفعلية.
من المهم أن لا يُنظر إلى المقاومة في حمص ودمشق كتهديد، بل كفرصة حقيقية، فرصة لإعادة بناء سوريا لا من أجل أبنائها فحسب، بل بمشاركتهم أيضا. فمن دون مشاركة السوريين الفعلية، لن تكون إعادة الإعمار مستدامة، بل مجرد تكرار لأخطاء الماضي التي دفعت البلاد إلى حافة الهاوية.