في ندوة عامة استضافها معهد "تشاتام هاوس" مؤخرا، تحدث وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، بثقة عن الإنجازات الدبلوماسية التي تحققت منذ الإطاحة ببشار الأسد. وحظيت زيارته إلى المملكة المتحدة، بعد أيام قليلة من لقائه بالرئيس ترمب في البيت الأبيض، بإشادة واهتمام واسعين باعتبارها علامة فارقة أخرى تضاف إلى سجل الإنجازات الدبلوماسية.
وتعد هذه الزيارة أول زيارة رسمية لوزير سوري إلى المملكة المتحدة منذ أكثر من 16 عاما، وقد أسبغ عليها رفع العلم السوري فوق السفارة في لندن بعدا رمزيا إضافيا، في إشارة واضحة إلى تجدد العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
ورغم أهمية هذه الخطوة فإن الأسئلة التي طرحها كل من مدير الندوة والحضور سلطت الضوء على الواقع بشكل جاد بعيد عن الأوهام: إن عودة سوريا إلى البوتقة الدولية لا تتوقف في نهاية المطاف على العلاقات الخارجية وحسب، بل على مصداقية انتقالها السياسي الداخلي أيضا. وتركز جانب كبير من النقاش على ما إذا كانت الحكومة الانتقالية ملتزمة حقا ببناء نظام سياسي شامل يضمن تمثيلا متساويا لجميع السوريين.
قدّم الوزير الشيباني رؤية مبنية على المشاركة السياسية الفاعلة والانتخابات المباشرة كأساس للنظام السياسي المستقبلي في سوريا. ورغم امتناعه عن استخدام كلمة "ديمقراطية" فإن الهدف كان واضحا. ومع ذلك، افتقرت تلك الرؤية إلى عنصر جوهري بشكل لافت: لم يشر الشيباني إلى موعد ترخيص الأحزاب السياسية، وهو شرط أساسي لأي عملية انتخابية ذات مصداقية.
الفراغ السياسي
إثر الإطاحة بالأسد، سارعت السلطات الانتقالية إلى تفكيك البنية التحتية السياسية للنظام السابق. وأمر الرئيس أحمد الشرع بتعليق عمل جميع الأحزاب المرتبطة بالنظام السابق وعلى رأسها حزب "البعث" الحاكم والمنظمات التابعة له المنضوية تحت "الجبهة الوطنية التقدمية".
يتمتع المواطنون بالحرية في مناقشة السياسة والحق في التعبير عن الآراء السياسية، إلا أن غياب أي إطار لتشكيل الأحزاب يجعل التنظيم السياسي الحقيقي مستحيلا تقريبا
لم يكن حل حزب "البعث" مفاجئا، إلا أن حل الأحزاب الأخرى، على الرغم من الدور الذي اضطلعت به في دعم واجهة التعددية في ظل حكم الأسد، أثار المخاوف لدى بعض المراقبين بشأن مسار الحياة السياسية في سوريا ما بعد الأسد.
ولتقديم ضمانات، أكد الرئيس الشرع مجددا التزامه بالتعددية السياسية. وكرس الإعلان الدستوري لعام 2025 هذا الالتزام، الذي يضمن الحق في المشاركة السياسية وحرية تشكيل الأحزاب السياسية. بيد أن الإعلان حمل تحذيرا هاما: هذه الحقوق مشروطة بإقرار قانون جديد للأحزاب السياسية.
وأدى هذا الفراغ القانوني فعليا إلى تعثر عملية الانتقال السياسي في سوريا. يتمتع المواطنون بالحرية في مناقشة السياسة والحق في التعبير عن الآراء السياسية، إلا أن غياب أي إطار لتشكيل الأحزاب يجعل التنظيم السياسي الحقيقي مستحيلا تقريبا. والنتيجة كانت مفارقة مثيرة للقلق: فالحقوق مضمونة من حيث المبدأ، لكنها بعيدة عن متناول اليد من حيث الممارسة العملية. وقد أدت هذه الفجوة إلى تعميق الشكوك لدى أولئك الذين يشعرون بالقلق أصلا بشأن مسار الانتقال ووجهته.
المظاهر الضارة
بدا الوزير الشيباني حريصا على تقديم تقييم متوازن للحياة السياسية خلال المرحلة الانتقالية. وأشار إلى أن السوريين، على عكس ما كان سائدا خلال عهد الأسد، أصبحوا الآن قادرين على الانخراط في النقاش السياسي دون خوف. إلا أنه أقر في الوقت نفسه بعدم وجود أحزاب سياسية فاعلة حاليا في سوريا. وفي محاولة لطمأنة المشككين، أكد مجددا التزام الحكومة الانتقالية بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بعد المرحلة الانتقالية مباشرة، مشيرا إلى جدول زمني مؤقت مدته أربع سنوات. بيد أنه لم يقدم أي إشارة إلى موعد السماح بتشكيل أحزاب سياسية جديدة، وهو إغفال يلقي بظلال من الريبة على مصداقية خارطة الطريق الانتخابية التي قدمها.
من الناحية التقنية، يندرج اعتماد قانون الأحزاب السياسية ضمن اختصاص البرلمان القادم. ومع ذلك، ثمة دور حاسم للحكومة في تسهيل وتسريع هذه العملية. وتفيد التقارير بأن الكثير من الوزارات تعمل على إعداد تشريعات ضمن اختصاصاتها استعدادا للجلسة البرلمانية الأولى، بهدف تجنب أي تأخير غير ضروري. ومع ذلك، ثمة غموض يكتنف الخطوات الملموسة التي تتخذها السلطات الانتقالية لإعطاء الأولوية لقانون الأحزاب السياسية. فلم تُحدد أي هيئة قيادية بعد، ولم تُرسم خارطة طريق، ولم يجر تقديم أي التزام علني بجدول زمني يهدف إلى تسريع صياغة قانون الأحزاب وتشريعه.
وبعد أربع سنوات فقط ستشهد البلاد اثنتين من الانتخابات الحاسمة، وهذا يعني أن الوقت محدود إلى حد كبير. فالأحزاب السياسية لا تتشكل بين عشية وضحاها، فهي تحتاج إلى وقت للتنظيم، وتحديد برامجها، وتوسيع دوائرها الانتخابية، والاستعداد لمنافسات هادفة. وعلى أرض الواقع يحظى الرئيس المؤقت أحمد الشرع (والحركة التي يُتوقع أن تتشكل حوله) بأفضلية مؤسسية ورمزية لا يستهان بها، بفضل دوره المحوري في الإطاحة بالنظام وقيادة العملية الانتقالية. إن التأخير في تشريع قانون يجيز تشكيل الأحزاب الجديدة يحمل مخاطر حقيقية تتجسد في ترسيخ قناعة المشككين بأن العصي توضع في العجلات عمدا لتعزيز تلك الأفضلية. وسواء كان ذلك مقصودا أم لا، فإن "الانطباعات" السياسية الراهنة تضر بالمشهد السياسي.
لا وقت لإضاعته
إذا كانت السلطات الانتقالية جادة في بناء بلد تعددي وشامل، فعليها أن لا تكتفي بتقديم ضمانات مبهمة، بل تتخذ إجراءات حاسمة. تبدأ بخارطة طريق واضحة ومعلنة لتشريع الأحزاب السياسية، خارطة تُسرع صياغة قانون أحزاب قوي ومناقشته والتصديق عليه.
ولا ينحصر الأمر في وضع جدول زمني وحسب، فهذا القانون يجب أن يكون قادرا على إحداث تغيير جذري يضمن الحريات السياسية، ويحقق تكافؤ الفرص، ويفكك بقايا السيطرة الاستبدادية التي تلقي بظلالها على المشهد السياسي في البلاد. وفي غياب مثل هذا القانون، ستبقى السياسة في سوريا حكرا على الأقوياء، امتيازا حصريا وليست حقا ديمقراطيا.
إذا كانت السلطات الانتقالية جادة في بناء بلد تعددي وشامل، فعليها أن لا تكتفي بتقديم ضمانات مبهمة، بل تتخذ إجراءات حاسمة
وأي تأخير إضافي، سواء كان متعمدا أم نتيجة للجمود المؤسسي، سوف يزيد من اتساع الهوة وتعميق شكوك المواطنين، وإقصاء المشككين أصلا في مصداقية العملية الانتقالية. والأسوأ من ذلك، ثمة مخاطر بإعادة إنتاج الديناميكيات التي أشعلت الثورة بادئ ذي بدء: مركزية السلطة، والإقصاء السياسي، وتشكيل الفضاء والرأي العام بأداء استعراضي وخطاب موجه ومدروس.
لا يمكن أن يكون هناك انتقال ذو مصداقية دون تمثيل حقيقي لكافة أطياف المجتمع، ولا شرعية دون مشاركة سياسية فاعلة. وإذا كان لسوريا أن تتحرر من ماضيها، فلا يمكن تأجيل التعددية، أو عرقلة القوانين التي تسهم في إنجازها. واليوم يقع على كاهل القيادة الانتقالية عبء هذه المسؤولية كي تثبت أنها تدرك هذه الضرورة الملحة، وأنها مستعدة أيضا لاعتناقها وتحويلها إلى واقع ملموس بجرأة وشفافية ودون أي تأخير.