منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، أشاد المسؤولون الأردنيون بتراجع ملحوظ في عمليات تهريب المخدرات عبر الحدود السورية. فقد توقفت حبوب الكبتاغون، وهي الأمفيتامين الصناعي الذي كان يأتي بكميات هائلة عبر الحدود الشمالية برعاية الأسد، عن التدفق بالحرية نفسها. وأسهم انتهاء الحماية التي كان يوفرها النظام، إلى جانب تشديد المراقبة وتحسين التنسيق العسكري، في تحقيق هذا التقدم.
لكن مع تراجع التهريب البري، برز تهديد جديد أكثر مراوغة وقدرة على التكيف، يتمثل في التهريب الجوي. فقد بدأ المهربون باستخدام الطائرات المسيّرة والبالونات لنقل المخدرات جوا إلى الأردن. ويشكّل هذا التحول مرحلة جديدة في حرب المخدرات الإقليمية، حيث لم تعد الجغرافيا تحدد ساحة المواجهة، بل التكنولوجيا. وبينما يمكن تسييج الطرق البرية وتسيير الدوريات عليها، فإن المجال الجوي أكثر صعوبة في المراقبة، ووسائل التهريب الجوية أعقد في التتبع والاعتراض.
في النصف الأول من عام 2025 فقط، اعترضت القوات الأردنية أكثر من 310 طائرات وأجسام طائرة محملة بالمخدرات. ورغم أن المسؤولين لم يكشفوا عن مصادرها الدقيقة، فإن مصادر مطلعة أشارت إلى أن كثيرا منها أُطلق من الأراضي السورية. وتؤكد هذه الأرقام ما كانت عمّان تخشاه منذ زمن، فلم يعد المهربون محصورين في الطرق البرية، بل يتكيفون بسرعة ويدفعون بجزء متزايد من عملياتهم نحو السماء.
التهريب الجوي ليس جديدا تماما، فقد جرب المهربون استخدام الطائرات المسيّرة حتى قبل سقوط الأسد، لكن التهريب البري ظل الخيار المفضل لفاعليته المثبتة. غير أن انهيار الحماية التي وفرها النظام غيّر مشهد تجارة المخدرات في سوريا جذريا، وأجبر المهربين على الابتكار. ومع انخفاض التكلفة وتقليل المخاطر وفعالية التشغيل، أصبحت الطائرات المسيّرة خيارا جذابا على نحو متزايد.
التعامل مع الطائرات المسيّرة يتطلب تغطية رادارية وأدوات حرب إلكترونية ووحدات اعتراض سريعة، بينما تستدعي البالونات مراقبة بصرية دائمة ودوريات مرنة
توفر الطائرات المسيّرة للمهربين مزايا التخفي والمرونة وانخفاض التكلفة. فهي قادرة على تجاوز الطرق البرية المحصنة، والتحليق على ارتفاع منخفض لتفادي الرادار، والعمل ليلا، مما يصعب عملية رصدها. وطائرة قيمتها ألف دولار يمكن أن تحمل مخدرات تساوي عشرات الآلاف من الدولارات، وبعض النماذج مجهزة بخاصية العودة لإعادة الاستخدام. ويمكن إطلاقها من أي مكان تقريبا، ما يجعل مساراتها غير متوقعة. وقد منحت هذه المزايا المهربين تفوقا واضحا في مواجهتهم مع القوات الأردنية.
لكن الطائرات المسيّرة ليست التهديد الجوي الوحيد، فقد بدأت بالونات موجهة عن بُعد في الظهور أيضا على طول الحدود. واعترضت القوات الأردنية مؤخرا عدة بالونات أُطلقت من سوريا محملة بكميات كبيرة من حبوب الكبتاغون والميثامفيتامين الكريستالي. ورغم بساطتها وانخفاض تكلفتها، فإن هذه البالونات تحتاج فقط إلى غاز الهيليوم ونظام ملاحة بسيط. ويمكن إطلاقها بسرعة من مناطق نائية لتطفو بصمت فوق الحدود، متجنبة الضجيج والإشارات الإلكترونية التي تكشف الطائرات المسيّرة. ورغم افتقارها إلى الدقة، فإن طبيعتها منخفضة التقنية تجعلها عصية على التشويش أو التدابير الإلكترونية المضادة، مما يصعّب عملية اعتراضها.
يكمن التحدي بالنسبة للأردن في تنوع هذه التهديدات. فالتعامل مع الطائرات المسيّرة يتطلب تغطية رادارية وأدوات حرب إلكترونية ووحدات اعتراض سريعة، بينما تستدعي البالونات مراقبة بصرية دائمة ودوريات مرنة. وهذا التنوع يرهق الدفاعات الحدودية ويفرض على الأردن الاستثمار في طيف واسع من الوسائل المكلفة لمواجهتها.
وتتجاوز المخاطر مسألة المخدرات، فقد حملت بعض الطائرات المسيّرة التي جرى اعتراضها متفجرات وأسلحة نارية، مما أثار مخاوف من إمكانية تحول طرق التهريب إلى قنوات لتسليح الجماعات الإرهابية. ويعتز الأردن بكونه واحة استقرار في منطقة مضطربة، غير أن احتمال تدفق الأسلحة عبر أجوائه يهدد ذلك التوازن.
وتشعر أجهزة الاستخبارات الأردنية بقلق خاص إزاء الطبيعة مزدوجة الاستخدام لهذه الوسائل، فطائرة مسيّرة يمكنها أن تُسقط المخدرات اليوم، وتستطلع مسارات التهريب غدا، وتنقل المتفجرات بعد ذلك. ولا يتعلق القلق بما يعبر الحدود حاليا فحسب، بل أيضا بما قد يعبرها مستقبلا.
وقد ردت عمّان بزيادة الدوريات، وتحسين المراقبة الرادارية، وإطلاق حملات عامة لتسليط الضوء على هذا التهديد المتطور. لكن المسؤولين يعترفون بأن التحدي يتفاقم. ورغم أن الجيش وأجهزة الاستخبارات الأردنية لا تزال كفؤة، إلا أنها مثقلة بالمهام. ومن دون تعزيز سريع على الصعيد التكنولوجي والمالي والاستراتيجي، فإنها تخاطر بالتخلف عن ابتكارات المهربين الذين يتطورون أسرع من قدرة الحكومات على التكيف.
لقد عطّل سقوط الأسد جزءا من منظومة المخدرات الإقليمية، لكنه لم يدمرها. وما برز بعده هو شبكة لامركزية ومرنة من المهربين، كثير منهم مجرّب في الحروب ومدعوم من قوى نافذة. وهؤلاء لا يكترثون للسلام أو الدبلوماسية، فحساباتهم تنحصر في الربح. والربح المتزايد يأتي الآن من السماء.
يجد الأردن نفسه اليوم في خط المواجهة لحرب من نوع جديد، لا تُخاض عبر عدّائي الحدود، بل عبر الطائرات المسيّرة والبالونات والكيمياء والخوارزميات. ومآل هذه الحرب لن يرسم مستقبل أمن حدود الأردن فحسب، بل أيضا استقرار المنطقة بأسرها.