الإصلاح في سوريا يبدأ حين تترجم الأقوال إلى أفعال

الإصلاح في سوريا يبدأ حين تترجم الأقوال إلى أفعال

استمع إلى المقال دقيقة

كشفت حوادث العنف الأخيرة في السويداء مجددا عن الهوة العميقة في النسيج الاجتماعي والسياسي السوري. وردا على ذلك، أصدرت الحكومة الانتقالية سلسلة بيانات تعهدت فيها بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات، والتصدي لخطاب الكراهية والتحريض الذي أذكى نار العنف.

نظريا، تبدو تصريحات دمشق مطابقة للمطلوب. غير أن أفعالها حتى اللحظة لم تواكب تلك التصريحات. فالإجراءات المُتخذة لا تعدو كونها خطوات شكلية، تفتقر إلى الجدية والشفافية والإلحاح الكافيَين لاستعادة الثقة أو درء انتكاسة العنف. نعم، ترجمة الوعود إلى سياسات تحتاج زمنا، غير أن التأخر في التنفيذ تودي بالبلاد إلى مخاطر.

إن لم تُترجم هذه الوعود إلى إجراءات ملموسة وجوهرية، فستُتلقف كشعارات جوفاء، تهدد الثقة بالحكومة، وتُهيئ الساحة لعودة العنف.

مصالحة السويداء تحتاج حتما إلى مساءلة شفافة، وإصلاحات جذرية، والتزام دؤوب باجتثاث جذور الانقسام. وأي تقصير هنا لن يُسهم في فشل منع الصدام المقبل فحسب، بل يضفي عليه صفة الحتمية.

عقِبَ اشتباكات السويداء مباشرة، روجت دمشق لصورتها كحكومة حريصة على العدالة والوحدة. وأكد مسؤولوها عزمهم ضمان محاسبة المُتسببين في الانتهاكات، ومنعِ استمرار التحريض، وصون النسيج الاجتماعي من خطاب التفرقة. وقد بدت تلك التصريحات المُحكمة الصياغة كصدى لِمطالب المجتمع الدولي ومنظمات المجتمع المدني والسوريين الذين أنهكهم العنف.

سطحيا، تحمِل هذه التصريحات وقعا مؤثرا. فهي تُقر بالمعاناة الناجمة عن الاشتباكات، وتشِي بضرورة تحرك جادّ لقطع دابر العنف. لكن الفجوة بين الخطاب والواقع- كما يحدث في المرحلة الانتقالية السورية- لم تطُل زمانا حتى انكشفت.

عمليا، لم تُقدم دمشق سوى حزمة هزيلة من الإجراءات الاستعراضية: تحقيقات داخلية في انتهاكات "مزعومة"، وتوقيف شخصين متورِّطين بنشر خطاب التفرقة. إجراءات لفتت الأضواءَ، لكنها ظلت حبيسة الإطار الرمزي.

تحقيقات السويداء: ضبابية متعمدة؟

وأعلنت وزارتا الدفاع والداخلية بدء تحقيقات حول انتهاكات الاشتباكات مباشرة بعد سريان وقف إطلاق النار في السويداء. ونشرت وزارة الدفاع بيانا أكدت فيه تشكيلَ لجنة لتحديد المُتورطين، مع وعد "بتطبيق أقصى العقوبات" حتّى لو كانوا من صفوف قواتها. وأكدت على شمولية التحقيق لكافة الأفراد الظاهرين في مقاطع الفيديو المنتشرة، مع وعد بنشر النتائج. وفي انسجام لافت، نَشَرت وزارة الداخلية بيانا أدانت فيه عمليات القتل خارج القانون، وتعهدت بإحالة المتورِطين إلى القضاء.

وعلى الرغم مما تبديه هذه التصريحات من التزام بالمساءلة، إلا أن مصداقيتها واجهت تشكيكا من البعض. ويؤكّد النقاد أن مثل هذه التحقيقات مقيدة هيكليا، ولا يُرجى منها تحقيق عدالة نزيهة- ولا سيما مع اتهام مُوظَّفين بارزين في الوزارتين بالضلوع في انتهاكات مماثلة.

لضمان المصداقية، يتعيّن على الحكومة الانتقالية تشكيلَ لجنة تحقيق مستقلة ذات صلاحيات كاملة، تُجرِي تحقيقا شاملا وشفافا في كل انتهاكات الاشتباكات بغض النظر عن هوية الجناة. ويجب أن تحظى اللجنة باعترافِ جميع الأطراف، مع دعوة منظمات حقوق الإنسان- المحلية والدولية- لمراقبة منهجِ العمل.

لن تكون هذه الخطوة مجرد رصيد لمصداقية العملية وحسب، بل برهان عملي- لا خطابيا- على التزام السلطة السورية الجاد بالعدالة.

والتزاما بمكافحة خطاب الكراهية، فرضت وزارة الإعلام السورية "عقوبات" على شخصَينِ ظهرا في فيديو مسيءٍ لرموز دينية في السويداء. ووفق بيانها، صُنّف الرجلانِ كمُؤثِّري "تيك توك" (لا صحافيّين)، فحُرما من العمل الإعلامي عاما كاملا، وسُحبت أوراق اعتمادهما الصحافية، مع إجبارهما على توقيع تعهّدٍ بعدم "التكرار" تحت تهديد العقاب القانوني.

إن تعذر إقرار تشريعٍ جديد قبل تشكيل هيئة تشريعية، فبإمكان السلطات- بل يتعيّن عليها- تطبيقَ القوانين السارية حاليا لا غدا

وعلى الرغم من تقديم هذه الإجراءات كـ"حملة ضد خطاب الكراهية"، فإن مراقبين كثرا وصفوها بالاستعراضية. بل تجاوز النقد رمزيتها إلى التشكيك في شرعيّة الوزارة ذاتها: كيف تفرض عقوبات على مؤثرين خارج اختصاصها؟ مؤكدين أن محاسبتهم- لو وُجِدت- يجب أن تتم عبر القضاء لا بأدوات إدارية مُبتدَعة.
بل ذهب مراقبون أبعد، مشيرين إلى تمادي صحافيين بارزين- بعضهم على صلة عضوية بالسلطة- في التحريض الطائفي من دون أي محاسبة. وكشفَ هذا التمييز الصارخ في التطبيق لسكان السويداء والعالم أن "الإجراءات" لم تكن سوى أدوات دعائية. فبدلا من كونها جهدا جادا لمواجهة مشكلة خطاب الكراهية والخطاب الطائفي المتجذرة، يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها مجرد تمرين علاقات عامة.
تتطلب مواجهة التحريض الطائفي أكثر من عقوبات هزيلة. فهي تستلزم استراتيجية شاملة لرصْد كل منْ يُؤجج نار الفتنة ومحاسبتهم- بدءا بالأكثر نفوذا. وإن تعذر إقرار تشريعٍ جديد قبل تشكيل هيئة تشريعية، فبإمكان السلطات- بل يتعيّن عليها- تطبيقَ القوانين السارية حاليا لا غدا، لإرسال رسالة لا لبس فيها: زمن التسامح مع الطائفية ولى.
بالتزامنِ مع اشتباكات السويداء، تواترت أنباء عن هجمات طائفية مُمنهجة استهدفت الطلاب الدروز في جامعات سورية عدّة. حيث تعرض طلاب من السويداء لموجة تمييز عنيف، واعتداءات جسدية، وحالات اختفاء قسري
واقتُيد طلاب من غرف سكنهم الجامعي، وضُربوا بوحشية على يد زملاء محرضين. وفي حالات أخرى، فقدت عائلات أبناءَها المقيمين في مساكن جامعية خارج السويداء، غارقين في ضبابية قسرية: بين الاعتقال الأمني المحتمل والاختطافِ على أيدي زملائهم.
لم تكن هذه الاعتداءات أعمالا فردية، بل حلقة في سلسلة مُمنهجة. فقد ظهرت مجموعات ضخمة على "واتساب" و"تلغرام"- بعضها يضم آلاف الأعضاء- مُكرسة لتعقب الطلاب الدروز واستهدافهم. وبوعيٍ تام بنتائج أفعالهم، حوّل أعضاء هذه المجموعات البيانات الشخصية (أسماء، أرقاما غُرفا، صورا) إلى قوائم إعدام افتراضية، تحت سمعِ السلطاتِ وبصرها.

على الرغم من حاجة الإصلاحِ لزمنٍ، فإن غياب الخطوات الملموسة يُحوِل الوعود إلى سراب

وعلى الرغم من فداحة الانتهاكات واتساع نطاقها، ظل رد السلطات جزئيا وسطحيا. فاكتفت بعض الجامعات بنشر بيانات إدانة جوفاء، بينما منح مسؤولون "شرعية" لتحركات شعبوية طالبت بطرد طلاب السويداء- وكأنهم يستمعون لصوت التحريض لا ضحاياه.
لكن الأكثر خطورة هو الصمت الرسمي المُطبق حول محاسبة الفاعلين. فغياب الشفافية لا يُمكن الجناة فحسب، بل يُرسخ قناعة شعبية بموافقة السلطة الضمنية على العنف الطائفي- وهو الأمر الذي يحوّل هوة الثقة بين الشعب والحكومة إلى هاوية لا تُردم.
يبدأ وقف نزيف التصعيد بضمانات ملموسة لحماية أصحاب الهويات المستهدفة. ويجب أن تكون هذه الضمانات رسمية وعلنية وصارمة، لتُوصل رسالة لا لبس فيها: الجرائم القائمة على الدين أو العرق أو الانتماء السياسي لا تُغتفر ولا تُترك دون عقاب.
منذ تولّي السلطة، رسمت الحكومة الانتقالية مسارا جديدا، رافعة سقفَ التوقعات داخليا وخارجيا. وصحيح أن خطابَ التغيير ضروري لترميم الثقة، لكن الفجوة بين تصريحاتها وإجراءاتها تزيد الشرخَ المجتمعي عمقا- وهو التناقض الأكثر تهديدا لمشروعها الإصلاحي.
وعلى الرغم من حاجة الإصلاحِ لزمنٍ، فإن غياب الخطوات الملموسة يُحوِل الوعود إلى سراب. وعندما تتحطم التوقعات، تتحول إلى ركام خيبة- ثم بركانِ غضب. وانهيار جسرِ الثقة ليس خطرا سياسيا فحسب، بل شمعة تُضيء طريقَ العنف. إن تُركت تشتعل، ستُذكي انقسامات أشد عمقا، وتُغذي السخط، وتُعيد سوريا إلى الحلقة المفرغة التي أرادت فِكاكا منها. 

font change