بعد ما يقرب من ثلاث سنوات ونصف من النزاع الوحشي، بات من الطبيعي أن تثار تساؤلات حول مدى استعداد الأوكرانيين العاديين لمواصلة دعم زعيمهم في زمن الحرب، الرئيس فولوديمير زيلينسكي.
منذ اللحظة التي أطلق فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما وصفه بـ"العملية العسكرية الخاصة" للسيطرة على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، بات زيلينسكي رمزا دوليا لصراع بلاده من أجل البقاء.
وقد عزز قراره بالبقاء في كييف خلال الأيام الأولى من الغزو الروسي، في وقت كانت فيه قوات النخبة الروسية قد تلقت أوامر بتصفية الزعيم الأوكراني، من مكانته كبطل وطني في أعين الأوكرانيين. كما كان لالتزامه الثابت بالقضية الأوكرانية على الساحة الدولية، وقيادته لحملة لحشد الدعم الغربي لجهود كييف الحربية، دور بالغ الأهمية في تمكين أوكرانيا من الدفاع عن نفسها في مواجهة الهجوم الروسي.
ولولا سعيه الدؤوب لإقناع القادة الغربيين بالحفاظ على دعمهم، لكان من الصعب الجزم بما إذا كانت كييف ستتمكن من تأمين الأسلحة والمساعدات اللازمة لمواصلة الحرب.
ولكن، كما هو الحال في كل صراع لا نهاية واضحة له، بدأت ملامح الإرهاق من الحرب تظهر بوضوح، مصحوبة بتساؤلات متزايدة حول جدوى الاستمرار في القتال. ويبرز هذا الواقع بجلاء في الحالة الأوكرانية، حيث أسفرت شدة النزاع وما خلفه من خسائر بشرية ومادية فادحة عن تراجع ملحوظ في المعنويات.
وتشير أحدث إحصاءات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في الولايات المتحدة إلى وقوع خسائر فادحة، إذ يُقدَّر عدد القتلى في صفوف القوات الأوكرانية بما بين 60 ألفًا و100 ألف، فيما يبلغ إجمالي المصابين حوالي 400 ألف.
أما الخسائر الروسية، فوفق وزارة الدفاع البريطانية، تتجاوز ذلك بكثير، إذ يُقدّر أن أكثر من مليون جندي روسي قتلوا أو أصيبوا منذ بدء الغزو الشامل في 24 فبراير 2022.
وبالنسبة للأوكرانيين، فقد تسبب استمرار النزاع في تصاعد الضغوط على زيلينسكي من منتقديه المحليين، خاصة بعد انتهاء ولايته رسميا في مايو/ أيار 2024. ومنذ ذلك الحين، واصل حكمه مستندا إلى الصلاحيات التي يتيحها قانون الطوارئ في زمن الحرب، متجاهلا دعوات المعارضة لتشكيل حكومة وحدة وطنية.
وقد أسفر هذا التململ الداخلي عن اندلاع أول مظاهرة كبرى منذ بداية الغزو، إذ خرج آلاف المتظاهرين إلى شوارع كييف هذا الأسبوع احتجاجا على قرار زيلينسكي باستهداف عدد من الهيئات المعنية بمكافحة الفساد، معتبرين أن هذه الخطوة تمثل تهديدا للحريات الديمقراطية في البلاد.
واندلعت الاحتجاجات بعد أن صادق البرلمان الأوكراني على مشروع قانون يُخضع المكتب الوطني لمكافحة الفساد، المعروف بـ"نابو،" ومكتب الادعاء المختص بمكافحة الفساد، "سابو،" لسلطة النائب العام، الذي يخضع بدوره للرئيس.
واعتبر المحتجون هذه الخطوة هجوما متعمدا على الديمقراطية الأوكرانية، خصوصا أن هيئات مكافحة الفساد كانت تحقق في قضايا تطال عددا من كبار المسؤولين في حكومة زيلينسكي.
ورغم الانتقادات، صادق زيلينسكي على التشريع، مدعيا أن هذه الخطوة ضرورية لتطهير الهيئات المدعومة من الغرب من "النفوذ الروسي،" ومؤكدا أن الترتيبات الجديدة ستضمن أن من تثبت عليه تهمة الفساد سيواجه "حتمية العقاب". وقد قوبلت تصريحاته بوابل من الانتقادات الحادة من خصومه السياسيين، الذين يرون أن هذه التعديلات تُضعف فرص محاسبة المتورطين في قضايا الفساد، وهي قضية ظلت تؤرق حكومة زيلينسكي منذ اندلاع الحرب مع روسيا.
وأدى الغضب الشعبي من هذه الإجراءات إلى اندلاع أول موجة احتجاجية مناهضة للحكومة منذ بدء النزاع، حيث ردد المتظاهرون شعارات مثل "أوكرانيا ليست روسيا!" ورفعوا لافتات كتب عليها "الفساد = الموت" أمام مقر الرئاسة. كما أن استهداف زيلينسكي للهيئات المعنية بمكافحة الفساد دفع بعضا من أبرز مؤيديه السابقين إلى الانسحاب من صفوف داعميه، من بينهم أولغا رودينكو، رئيسة تحرير صحيفة "كييف إندبندنت"، التي كتبت في افتتاحية حديثة: "سيلقى زيلينسكي غضب أولئك الأوكرانيين العنيدين المحبين للحرية، الذين كان هو نفسه رمزا دوليا لهم".
قد يلحق استهداف زيلينسكي لهيئات مكافحة الفساد ضررا بالغا بطموحات أوكرانيا للانضمام الى الاتحاد الاوروبي
ويبدو أن حجم الاحتجاجات فاجأ زيلينسكي، إذ لمح إلى احتمال تراجعه عن حملته ضد هيئات مكافحة الفساد، قائلا: "كلنا نتشارك عدوا واحدا: المحتل الروسي. والدفاع عن الدولة الأوكرانية يتطلب جهازا أمنيا قويا بما يكفي ليضمن شعورا حقيقيا بالعدالة".
وإلى جانب إشعال شرارة الاحتجاجات المحلية، قد يُلحق استهداف زيلينسكي لهيئات مكافحة الفساد ضررا بالغا بطموحات أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، في وقت تستعد فيه بروكسل لبدء مفاوضات الانضمام مع كييف.
وقد صرحت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بأنها تنتظر "تفسيرات" من زيلينسكي، البالغ من العمر 47 عاما، فيما أعرب مسؤولون فرنسيون وألمان عن خشيتهم من أن تؤدي هذه الإجراءات إلى تقويض آمال كييف في الانضمام إلى الاتحاد.
وقال متحدث باسم الاتحاد الأوروبي: "إن احترام سيادة القانون ومكافحة الفساد من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الاتحاد الأوروبي. وبصفتها دولة مرشحة، يُتوقَّع من أوكرانيا أن تلتزم بهذه المعايير التزاما كاملا. لا مجال لأي تهاون".
وقد ينعكس هذا الخلاف أيضا على مجريات الحرب، إذ قد يدفع بعض القادة الغربيين إلى إعادة النظر في مدى استعدادهم لمواصلة دعم زيلينسكي، في ظل اتهامات متزايدة بتقييده للحريات الديمقراطية في بلاده.
وفي واشنطن، على سبيل المثال، استغل ناشطون بارزون معارضون للدعم الأميركي لأوكرانيا، مثل النائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين، موجة الاحتجاجات لدعوة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى إنهاء الدعم الأميركي لكييف. وكتبت عبر منصة "إكس": "اطردوه من المنصب! وعلى أميركا أن توقف التمويل وتسليم الأسلحة فورا".
أما روسيا، فستستمد بدورها زخما من الأزمة السياسية التي تحيط بزيلينسكي، الأمر الذي يعزز قناعة بوتين بأنه سيخرج في نهاية المطاف منتصرا من هذا الصراع. فبعد أكثر من ثلاث سنوات من القتال المرير، هناك احتمال حقيقي بأن تقوّض الأزمة الداخلية في كييف آمال زيلينسكي في قيادة بلاده نحو النصر.