منبع المثالية الألمانية

منبع المثالية الألمانية

استمع إلى المقال دقيقة

من هو حقا أبو الفلسفة الألمانية وكيف بدأت وتشكلت لتكون على هذه الصورة كما نعرفها اليوم؟ سؤال يبدو بسيطا لكنه ينفتح على شبكة من التقاليد والتأويلات والنزاعات التأريخية. البعض ينسب هذا اللقب إلى إيمانويل كانط، بوصفه واضع حجر الأساس للفلسفة النقدية التي أعادت تعريف العقل وحدوده. وآخرون يرون في لايبنتز المؤسس الحقيقي، ذلك العالِم الفيلسوف الذي أراد عقلنة العالم من خلال منظومة المونادات والانسجام المسبق.

لكن التأمل في روح الفلسفة الألمانية، لا في أشكالها المنهجية أو مظهرها الخارجي، يقودنا إلى شخصية أعمق، وأبعد تأريخيا، وأكثر جذرية في تفكيرها، شخصية لم تضع بناء نظريا مغلقا، بل فتحت الفلسفة على اللامتناهي، على الغامض، على الداخل الإلهي للذات. هذه الشخصية هي المايستر إيكهارت، الذي لا يمكن أن نضعه ضمن خانة اللاهوتيين التقليديين، ولا ضمن التصوف بمعناه التبسيطي، بل ربما نحتاج إلى أن نقرأه كفيلسوف ميتافيزيقي بالمعنى الأصيل للكلمة. أظن أنه هو من مهد لما سيكون لاحقا هوية الفلسفة الألمانية الحديثة بعلاماتها الناصعة: النزوع إلى الكلية، إلى الجذور، وإلى اللغة كمأوى للوجود، وإلى الذات التي تُفكر في ذاتها كفعل خَلق. الألمان وغير الألمان، هيغل وهايدغر وكارل ياسبرز وديتريش ماهنكه وجان إرهارد وأنطوان فايرل وإريك فروم وكارل راينر وبول تيليش وهنري كوربان وميشيل هنري ومارتن بوبر، كلهم اعترف بفضل إيكهارت.

لقد سبق إيكهارت كل من جاء بعده في إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والمطلق. لم يكن المطلق عنده موضوعا خارج الوجود، يعلو على العقل، بل كان نوعا من الحضور، غيابا يشع، وينطق سكونا. الإله عند إيكهارت يُكشف في الصمت. وليس هذا الصمت مجرد غياب للكلام، بل هو امحاء للكثرة، إماتة للذات الصغرى حتى تتجلى الذات الكبرى. هنا تبدأ الفلسفة الألمانية بصيغتها الأصيلة، بوصفها نزوعا إلى الأصل، لا إلى الظاهر، استنطاقا لما وراء الصور، لا توصيفا لها، صراعا مع اللغة، لا استسلاما لها.

قد لا يكون من المبالغة أن نقول إن مايستر إيكهارت كان أول من وضع الفلسفة الألمانية في مسارها التأملي الخاص

لم يكن إيكهارت ممن يرضون بالتمثيلات العقلية، حقيقة الشيء هي صورة نتمثلها في عقولنا، بل نتجاوزها نحو ما لا يُمثل. في قلب كل كائن، هناك نقطة خفية، هي النواة، الشرارة التي ليست من العالم لكنها تتخذ فيه مستقرا. الإنسان، عنده، لا يُدرك هذه الشرارة إلا حين ينفصل عن كل تعين، ويصير هو نفسه غيابا. وهذه الرؤية تنبني على نوع من الفراغ الماهوي، الذي سيعود لاحقا عند يعقوب بوهمه، ثم تُعاد صياغته في صورة اللا-صورة، عند شلينغ، وتستقر في قلب فلسفة هايدغر حين يتحدث عن "العدم" لا كفناء، بل كشرط إمكاني للانكشاف.
وقد لا يكون من المبالغة أن نقول إن مايستر إيكهارت كان أول من وضع الفلسفة الألمانية في مسارها التأملي الخاص. لم يكن يريد علما يُضاف إلى بقية العلوم، بل أراد تحويلا للوجود نفسه. فهو لم يسأل: ما المعرفة؟ بل: من أنا في حضرة الحقيقة؟ لم يكن العقل عنده أداة للتمييز، بل قدرة على الاتحاد بما يتجاوز كل تمييز. هذا النزوع إلى "الوحدة ما قبل المقولات" هو ما سيلتقطه بعد قرون فلاسفة مثل هايدغر، حين يقول إن الفكر الحقيقي هو استجابة لنداء، لا مبادرة لتمثيل.
إن نيتشه، في تمرده على الأخلاق، وحفرياته في الجذور الغريزية للقيم، يكاد يكون استمرارا لصوت إيكهارت في سياق علماني: فكلاهما يرى أن الإنسان لا يُختزل في صورته الاجتماعية أو الأخلاقية، بل هو ممر، عبور، امحاء، تجاوز. وكأن نيتشه، حين يبشر بالإنسان الأعلى، إنما يُعيد إحياء ذلك النداء القديم إذا ما أضعنا أنفسنا، لكن على طريقته.

حين نُعيد النظر في شجرة الفلسفة الألمانية، لا نجد جذورها في كونيغسبرغ أو في يينا، بل في أقبية الأديرة، في كتب التوبة، في الحب الإلهي

حتى شوبنهاور، في رؤيته للعالم كإرادة وتمثل، لا يمكن فصله عن أثر إيكهارت، رغم الفارق النظري: ففي كلتا الحالتين، هناك رغبة في تخطي الصور، في العودة إلى ما وراء الإرادة الظاهرة. بل يمكن أن نجد أثرا لإيكهارت حتى في من لم يذكروه، لأن فكره كان نهرا تحت الأرض، لا يظهر دائما في شكل صريح، لكنه يُغذي كل ما يعلو من بناءات لاحقة. ولعل أكبر ما يُحسب لهذا الرجل، أنه أدخل صمت المتصوفين في قلب الفلسفة. ليس صمت العجز، بل صمت القدرة، الصمت الذي يُنكر أن الحقيقة يمكن أن تُقال، ويصر على أنها تُعاش أو تُكشف. هذا هو الإرث الذي سيؤسس له لاحقا هايدغر، حين يجعل اللغة نفسها محل شك، ويبحث عما يُقال قبل أن يُقال، عن السكوت الذي يُؤسس للكلام. وهنا يظهر الرابط الخفي بين المتصوف والأنطولوجي، بين مَن أغمض عينيه في كنيسة مكلسة، ومَن كتب في كوخ الغابة عن الوجود المنسي.
مايستر إيكهارت لم يكن متأخرا على عصره، بل كان متقدما عليه بما لا يُقاس. لم يكن لاهوتيا بالمعنى المدرسي، بل كان يهدم اللاهوت من داخله، ليفتح للذات بابا نحو العمق. لم يكن فيلسوفا يُصنف الأشياء، بل كان شاهدا على احتراقها. ومن هنا، فإنه يستحق أن يُلقب بأبي الفلسفة الألمانية، لا لأن كل مَن جاء بعده قرأه، بل لأن كل ما كُتب بعده يحمل أثره. إن العقل الألماني، في نزوعه إلى الجذور، وفي صراعه مع اللغة، وفي بحثه عن الحقيقة لا في الصورة بل في الانكشاف، هو عقلٌ تأسس في رحم هذا الصوفي المتمرد.
فحين نُعيد النظر في شجرة الفلسفة الألمانية، لا نجد جذورها في كونيغسبرغ أو في يينا، بل في أقبية الأديرة، في كتب التوبة، في الحب الإلهي. وهذه البداية ليست ناقصة، بل هي الأكثر أصالة. مايستر إيكهارت لم يبدأ الفلسفة من صفرها الظاهر، بل من لهيبها الداخلي، من اشتعالها الصامت، من تلك اللحظة التي لا نكون فيها متفلسفين، بل صامتين أمام الحقيقة. 

font change