في قلب المدينة المنورة غرب السعودية حيث تتداخل القداسة مع السكينة، وتنبعث من الأزقة القديمة رائحة التاريخ وعبق النبوّة، وُلد مشهد ثقافي تمثل في معرض الكتاب 2025 تحت شعار "المدينة تقرأ" والذي انتهت فعالياته في 4 أغسطس/آب الجاري، مرسخا للمكان هويته المعرفية بـ170.000 زائر، و120 برنامجا ثقافيا استهدفت جميع الأعمار.
وسط صيف المدينة الذي يحاكي وهج المشاعر وهدوء الأذهان، سعى المعرض ببرامجه الثقافية المصاحبة لتحفيز قراءة الكتاب وتغيير صورة البيع والشراء عبر تهيئة المساحات الحرة لإبحار الخيال، وتنفيذ ورش مفتوحة للعقول، وفتح نوافذ تطل منها الروح على عوالم لا تُرى إلا بعين القراءة الواعية.
في الأصل تنظم معارض الكتب لاستنهاض المعارف، وإبقاء التأثير الحيوي للنشر، وترسيخ قيمة الكتاب، وإيقاظ هيبة القراءة، إضافة إلى أهداف شتى مهما صغرت إلا أنها في المحصلة النهائية يجب أن تحفز الناس وتنادي فيهم بالقراءة، وتنتظر من يراهن عليها من الزاوية الصحيحة التي تنفذها معارض الكتب العربية البالغ عددها 16 معرضا على مدار العام.
هذه المظاهرات القرائية المهمة لا نصادفها كل يوم، لأنها تقاطعات إنسانية نادرة تُذكّرنا بأن الكتاب مهما تأخر ركنه على الرفوف فإنه لا يزال حيا ينبض في قلوب المؤمنين بقيمته ودوره وأثره في تحسين الصور النمطية عن الشعوب.
قد يتغيّر شكل الكتاب، أو تتقلص مساحاته، أو تتحول أساليب تلقّيه، لكن أثره لا يزال ممتدا ليؤكد أن القراءة هي مزرعة الإنسان التي يجب استمرارية بذارها عبر مشاريع ذاتية، أو مؤسسية، وبرامج ومبادرات تبدأ منذ مطلع العام لتجيء معارض الكتب كمواسم لجني محصول آلاف القراء والكُتّاب من بساتين الفِكر والإبداع.
ستقف بوجه هذه المشاريع لا محالة عقبة العزوف المجتمعي عن القراءة في ظل هيمنة المغريات المضادة، وقد تنهزم أمام مقولة: "الناس لم تعد تقرأ" التي غدت معيارا لفظيا متداولا مُحرّكه وسائل التواصل، باعتبارها المتهم الوحيد الذي اختطف انتباه الأجيال، والوحيد الذي ينسب إليه تسرب الوقت. ومن أجل ذلك علينا التيقن والاعتراف بأن القراءة كمشروع مجتمعي بحاجة إلى تكثيف برامج مُفصّلة على مقاس الأجيال وتقلباتها المستمرة شريطة أن تراجع هذه البرامج بشكل دوري، لتحقق مستهدفاتها.
في كل عام تتوزع خطط الناس بين السفر للترويح عن النفس، أو اختيار برامج تطويرية. ونادرا ما تتضمن مبادرات القراءة
نحن في عالمنا العربي اليوم لا نعاني من قلة القرّاء؛ بل من ندرة البيئات التي تمنح الأمان، وتحتضن المشغولين بالقراءة، وتنوع تحفيزهم كلما نجحوا في تعميم أثرهم، واستقطاب قرّاء جدد من حولهم.
نحن لا نفتقر إلى الكتاب أو مضمونه، بل إلى ما يوقد رغبة الوصول إليه، ويؤكد للأجيال أن القراءة ليست فرضا ثقافيا أو نخبوية نخجل منها، بل مزرعة إنسانية تزيد القلب نسمة، والعقل اتساعا.
في كل عام تتوزع خطط الناس بين السفر للترويح عن النفس، أو اختيار برامج تطويرية. ونادرا ما تتضمن مبادرات القراءة. وإن وجدت، فهي إما تفتقر إلى قوة الجذب أو التأثير. ألم يحن للكتاب أن ينتقل اليوم إلى قائمة الترفيه الثقافي؟ سؤال عريض لن تجيب عليه غير الخطط التحفيزية والتثقيفية الممنهجة التي تُطلق من أجل اجتثاث أسباب العزوف القرائي، وخلق أجيال تمارس القراءة كأسلوب حياة، وكتجارة ذهنية لا تبور.
وبما أن المجتمعات العربية مستمرة في إقامة معارض الكتاب تحتم أن تحضر القراءة كفعل ممتد لمزارعين يأتون إلى هذه المواسم من أجل شراء المحاصيل الفكرية التي تكفيهم لبقية عامهم، وعلى الجهات المعنية تحفيزهم على جعل الكتاب وسيلة للراحة، وليس تحديا صعبا، وجسرا نحو الذات، وليس عبئا ثقافيا إضافيا، وكممارسة استمرارية لها بواعثها وحوافزها التي تعيد تعريف القراءة كمصدر دائم للترويح والإلهام.
اليوم نقف أمام أجيال جديدة ومختلفة كليا، تستقبل أكثر مما ترسل، وتكرر نفسها دون توقف، لذا بات من الضروري على الجهات الثقافية إعادة صياغة العلاقة بينها وبين القراءة كواجب، وكفعل إثبات على المعرفة، يساعدهم في أن يكونوا مثقفين قولا وعملا.
أشارت "اليونسكو" في أحد إحصاءاتها إلى أن متوسط وقت قراءة العربي لا يتجاوز 6 دقائق سنويا، وعدد الكتب المنشورة في العالم العربي يبلغ 6500 كتاب سنويا، مقارنة بما يزيد على 100.000 كتاب في أميركيا وحدها، ولا يستهلك العرب سوى واحد في المئة من الإنتاج العالمي للكتب.
أمام هذه الأرقام إن صّحت هل علينا اتهام تعكر المزاج العربي؟ أم تضاعف أميّة القراءة؟ ثم هل كانت استبيانات منظمة اليونسكو حول الدول العربية دقيقة وشاملة مقارنة بالأوروبية والغربية؟ أم إنها معلومات لكسر إرادة القرّاء العرب في تحقيق مستهدفاتهم الذاتية ورفع منسوب تقدمهم المعرفي.
أخيرا: لو أن لدينا معهدا عربيا خاصا بالقراءة وبرامجها لاستطعنا الرد على كل ما تنشره المنظمات عن حالة القراءة في عالمنا العربي بقبولها أو رفضها أو دحضها. لذا إن كان ما تذكره اليونسكو في مطلع كل عام حول هذا الجزء المعرفي الهام صحيحا فإننا في حاجة ماسة وعاجلة لخلق تصالح بيننا وبين ما أهملناه طويلا.