لا تبدو بلدان شرق المتوسط ومجتمعاتها إلا وكأنها أشكال مركبة من الحطام. مُدن مُدمرة وخالية من أية قيم مدنية، أرياف تتصحر بالتقادم، وعديمة الإنتاجية، عشوائيات على مدّ البصر، عصبيات أهلية ومناطقية متخمة برهاب الآخر، استعداد دائم للولوج في عنف مفتوح، ودون أية قيمة، قصور هيكلي في كل نوعيات الحياة المعاشة، معاداة مراهقة لكل ما هو أجنبي، نكوص واعتداد مزيف بالذات وتكريس مستدام لأساطير الجماعة المغلقة، ومعها كلها نكران مستدام لكل الآليات التي أوصلتنا هنا، بل الإصرار على تقديسها.
ربما شهدت مناطق أخرى من العالم بعضا من تلك الظواهر والأزمات، واحدة أو أخرى منها، بسبب ظرف تاريخي خاص. لكن لم يسبق أن عايشت منطقة ما كل هذه الترسانة من الوقائع معا، تبادلت وتطابقت فيها بلدانٌ متجاورة أعلى مستويات الدمار الكلي، عايشت مجتمعة أحداثا متتالية غطت عقودا من تاريخها المعاصر، أفرزت أفعالا وممارسات متتالية ومتولدة من بعضها، لم تنتج عن ظرف أو حدث تاريخي استثنائي، بل كانت خياراتها الذاتية طوال عقود، حتى إنها صارت "هويتها وتاريخها المعاصر"، لا فاصلا استثنائيا من حياة مجتمعاتها أو سيرة بلدانها، كما حدث في بلدان ومناطق أخرى من العالم.
لكن المنطقة نفسها، ومع كل ذلك وفوقه، لم تنتج أو تراكم أي فعل أو تفكير أو ممارسة نقدية تجاه كل ما أوصلها إلى ما هي عليه. لم تفعل النُخب ولم تنتج مؤسسات الدولة، أو حتى ممارساتها الثقافية والفنية والروحية، ما ينتقد ويفكك ويناهض الأدوات والمسارات التي أدت إلى هذه النتائج، ولو على سبيل التجريب والمحاولة. فكل المفرزات التي تقع في أعلى عالم الخيالات أو منظومة القيم والمُثل أو الخطابات السياسية والفكرية التي لهذه المجتمعات والبلدان، إنما تفتخر وتعيد تكريس ما كان سببا لكل هذا الخراب.
في البال أمثلة لا يُمكن حصرها، تدل كل واحدة منها على هذه الحقيقة. فما الذي فعله حكام العراق الجدد طوال عقدين كاملين مضيا عما شيّد وارتكز عليه "البعث" الصدّامي من مفاهيم وأدوات خراب العراق العميم في زمنه. أي شيء كان مخالفا لمزيج الفخر بالقوة والوعي الاستحواذي والخطاب الفوقي والذكورية الفجة والطائفية الوظيفية التي كانت زاد كل النظام السابق. ما الذي كان يستخدمه ذاك النظام من قهر مفتوح للجماعات الأهلية والمعارضين السياسيين وتخلى عنه النظام الجديد وفككه. ومثل العراق، ثمة ما يطابق ذلك سورياً ولبنانيا وفلسطينيا، وحتى إسرائيليا، إن افترضنا أن اسرائيل جزء عضوي من مناخ ومعادلات المنطقة.
على الرغم من كل ما هو مرئي بشكل فجائعي، ليس من طروحات وأفكار قد تفكك بؤرة "الأفعال الشائنة" التي تغرق فيها مجتمعات ودول شرق المتوسط
للتأريخ، يبدو أنه في لحظة ما، ربما في أوائل الخمسينات من القرن المنصرم، مع بداية الانقلابات العسكرية، تراكبت ثلاث ديناميكيات وتفاعلت مع بعضها، أنتجت في المحصلة وبالتقادم كل المسارات التي أوصلت هذه المجتمعات والبلدان إلى ما هي عليه.
في تلك المرحلة، حدثت أشياء مثل طغيان العسكر على منتجي السياسة الحرفيين، الساسة والأحزاب. ومعهم صارت الخطابات أهم وأشد فاعلية من الوقائع والمعضلات الحياتية واليومية. مثلهما غدا الخارج حاضرا وحيويا أكثر من الداخل، بالذات في قدرة الحاكمين على نيل الشرعية واستقرار الحُكم. معها جميعا، صارت القوة المجردة ذات أولوية في المتن العام على باقي أدوات القوة الناعمة، من اقتصاد ومعرفة وطبقات اجتماعية. لكن أولا غدت معاداة الغرب ومنتجاته السياسية والقيمية والثقافية رديفا للخنوع والاستسلام، قبالة الوله الطفولي والسلطوي بالأصالة والجذر والتاريخ المجيد.
خلال كل المراحل التي سبقت ذلك، كانت نفس هذه الدول والمجتمعات تواجه معضلات وتناقضات شبيهة بما واجهتها لاحقا. لكن لغيات هذه الديناميكية والأدوات التي انبلجت منذ أواسط الخمسينات، تمكنت الدول والمجتمعات من مواجهة معضلاتها بأقل قدر من المكاسرة والحلول الناجزة والباهظة ودون عنف جذري، قد يمارسه الحكام الأقوياء ضمن المناخ الوطني.
راهنا، وعلى الرغم من كل ما هو مرئي بشكل فجائعي، ليس من طروحات وأفكار قد تفكك بؤرة "الأفعال الشائنة" التي تغرق فيها مجتمعات ودول شرق المتوسط. فذات الأشخاص الذين يكررون الخطايا ذاتها، هم رموز وقادة ومُثل المتن العام في هذه البلدان والمجتمعات. وأيديولوجيات كارثية مثل "البعث" و"الإخوان المسلمين" والجهادية المتطرفة والقومية السورية، التي تعبد القوة الذكورية وتنبذ كل ما يمت للنقاش العقلاني غير الخطابي لمعضلات مجتمعاتنا وبلداننا، هي الأكثر رواجا في ربوعنا، وإن بغير تنظيمات جماهيرية، بل كوعي كلي مهيمن على الخيال العام.
جديرة بالقراءة والمتابعة تلك المنتجات التي حققتها مجتمعات دول محطمة مثل اليابان وألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، أو بلدان الشرق الأوروبي بُعيد انهيار التجربة الشيوعية، أو حتى الحواضر الأفريقية عقب الحروب القبلية والأهلية. جدير بالإعجاب والامتثال ما فعله الآباء الجدد في الفضاء العام لتلك البلدان، بعدما دفن الأجداد الذين أوصلوا الأحفاد إلى الخراب. فعل الآباء الجدد ذلك، لأنهم مع دفن أجدادهم دفنوا أفكارهم ومُثلهم وخطاباتهم، وأولا حكاياتهم ورؤيتهم للعالم من حولهم.