تركيا... سلام بلا ذاكرة

ما يحدث اليوم هو رغبة تركية بتجاوز هذه "الحرب الأهلية"، لكن دون تفهّم وتقبّل للأسباب الأولية التي أدت إليها

تركيا... سلام بلا ذاكرة

بينما توحي الأجواء العامة في تركيا بأن "عملية المصالحة" بين السلطة و"حزب العمال الكردستاني" تسير بخطى ثابتة، مبشرة بتحول جوهري إيجابي في بنية الدولة والنظام السياسي والحياة العامة، وقع حدثان تفصيليان أثبتا أن ما يحدث بين الطرفين هو أقل بكثير من أن يكون "تحولا تاريخيا".

فقادة الأحزاب القومية التركية، بمن فيهم زعيم "الحركة القومية التركية" دولت بهجلي، شريك الرئيس أردوغان في التحالف الحاكم والشخص الذي يعتبر نفسه راعيا لعملية المصالحة هذه، احتجوا بقوة على مرافقة أفراد من أمن إقليم كردستان لزعيم "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مسعود بارزاني أثناء زيارة الأخير لـ"مدينة جزير" ذات الأغلبية الكردية جنوب شرق تركيا قبل عدة أيام، مستنكرين وجود أعلام لإقليم كردستان على ملابس أعضاء أطقم الحرس، والترحيب البالغ الذي قوبلوا به من قِبل السكان المحليين.

كذلك "أدانت" محكمة مدنية تركية المواطن الكردي جميل تاشكيسن، وحكمت عليه بالسجن لمدة خمسين شهرا، فقط لأنه قال قبل تسع سنوات لزعيمة "الحزب الخيّر" ميراك أكشنار، أثناء زيارتها لمدينة "سيرت" ذات الأغلبية الكردية جنوب شرق البلاد: "المكان الذي أنت فيه الآن هو كردستان".

هذان الحدثان، ومثلهما العشرات من الوقائع اليومية الأخرى، كاعتقال بعض طلاب الجامعات لأنهم أنشدوا أغنية كردية، أو إغلاق محل تجاري لأنه وضع لافتة مكتوبة باللغة الكردية. تحدث في دولة تقول إنها تسعى لتجاوز واحدة من أقسى مراحل تاريخها المعاصر، أي ما كانت فعليا "حربا أهلية"، امتدت لقرابة نصف قرن، راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين، ودُمرت فيها مئات القُرى والبلدات والبيئات المحلية، وكانت مصدرا رئيسا لعدة انقلابات عسكرية، وسببا لتدهور اقتصاد البلاد طوال عقود، وعلة مستدامة لمنع تحديثها تنمويا وسياسيا وإنسانيا، بسبب عدم انضمامها للمنظومة الأوروبية.

ما يحدث اليوم هو رغبة تركية بتجاوز هذه "الحرب الأهلية"، لأثمانها الباهظة التي لم تعد تُحتمل، لكن دون أن تتفهم وتقبل وتستجيب للأسباب الأولية التي أدت إليها، أي العقلية القومية التي ترى في بعض الآراء والمواقف والسلوكيات الاعتيادية والبسيطة حسب مختلف المعايير الموضوعية، خطرا داهما على الأمن القومي والسلامة الكيانية. أي دون أن تتجاوز نوعية القومية التركية المطلقة، المصابة بداء الرعب من أية قومية أخرى، ولو كانت نسبية للغاية، وحتى في أكثر الحقول التعبيرية رهافة، كالموسيقى والأدب واللغة والرموز. فما تحاول العقلية السلطوية التركية أن تفعله عبر هذه العملية هو التأكيد على محق المقابل، لا التصالح معه، أي محاولة نيل المكاسب التقليدية نفسها، ولو بالسياسة، بعدما فشلت في نيله عبر الحرب.

فما معنى الإصرار الأسطوري من قِبل القائمين على "عملية المصالحة" هذه على احتكار تسميتها بعنوان شديد الاستفزاز "تركيا خالية من الإرهاب". هل من دلالة أكثر من ذلك على نوعية العقل المؤطر لكل ما يجري، الذي يقدم رؤية تفسيرية احتكارية لما حدث داخل البلاد طوال قرن كامل مضى، تم حصر العلاقة المختلة بين الأكراد والأتراك في هذه الدولة وكأنها فقط قضية "إرهاب العمال الكردستاني"، كجوهر أولي ومستدام لكل ما حدث ويحدث. أي تأكيد النفي المطلق لـ"القضية والمظلومية الكردية" منذ تأسيس الكيان التركي الحديث وحتى الآن، التي تعرض فيها ملايين الكرد في البلاد لكل أشكال المحق الرمزي والإبادة الثقافية والإلغاء السياسي والعنف المنظم والقهر الأمني.

خلال تجارب عالمية لا تُعد، كان ذاك التفصيل فارقا جوهريا بين "مصالحة كبرى" عقب الحروب الأهلية، تستهدف القطيعة مع سياق العنف الأهلي عبر الاستجابة لمسبباته، وبين ما هو نوع من "الانتفاع السياسي"، إما بغرض التماهي مع ظرف آني مؤقت، تعود فيه الأشياء والمعادلات حسبما كانت من قبل هذا الطارئ، أو تقصد تحقيق انتصار سياسي ماحق لجهة منخرطة في الحرب الأهلية، لم تتمكن من تحقيقه عبر الحرب والعنف.

في تركيا، يحاول كثير من المعلقين السياسيين وقادة الرأي العام، تفسير الإصرار الحكومي/السلطوي على عدم التطرق إلى المظلومية الكردية بأنه ضرورة لـ"عدم استفزاز" القواعد القومية والرأي العام في البلاد

ففي بلدان مثل لبنان ورواندا وسريلانكا وأيرلندا وغيرها، تمت عمليات السلام بناء على جوهر واحد، هو الاعتراف المتبادل بفداحة ما حدث وما فعله المنخرطون في الماضي، والتعهد المستبطن بتجاوزه حسب قيمٍ وأدوات مغايرة تماما، لتغيير السياقات التي أدت للحروب الأهلية. فيما أدت نماذج أخرى، كما حدث في اليمن أواخر الستينات وأفغانستان أواخر السبعينات، حين كانت المصالحات دون ذاكرة وإقرارات توافقية، لأن تكون المصالحات مجرد تغطية لحروب أهلية أخرى، متولدة من بعضها دون نهاية، عبر دورات من شكلي العنف، البارد والساخن. لأنها ببساطة لم تتجاوب من الجوهر الذي انبعثت منه الحرب الأهلية أساسا.
في تركيا، يحاول الكثير من المعلقين السياسيين وقادة الرأي العام، المدافعين عن عملية المصالحة هذه، يحاولون تفسير هذا الإصرار الحكومي على إبقاء يافطة ما يجري في مجال "إدانة العمال الكردستاني" دون التطرق إلى المظلومية الكردية والفظائع التي نفذتها مؤسسات الدولة، بأنه ضرورة لـ"عدم استفزاز" القواعد القومية والرأي العام في البلاد. لكنهم حينما يقدمون هذه الذرائع إنما يؤكدون على أن منبت الحرب هو شيء آخر غير "العنف المقاوم" الذي يستخدمه "العمال الكردستاني". 

font change