لم يكن الاجتماع الثلاثي الأميركي-الأردني-السوري، الذي احتضنته عمّان في الثاني عشر من أغسطس/آب 2025 حدثا عاديا في دفتر الدبلوماسية الأردنية، فهو لا يندرج ضمن اللقاءات الشكلية، بل يعكس تحولا في طريقة تعاطي الأردن مع الملف السوري، من موقع المتأثر، والمنشغل بتداعياته إلى موقع الفاعل الباحث عن صياغة مقاربة جديدة، لإعادة الاستقرار إلى المشرق.
منذ اندلاع الحرب السورية، قبل أكثر من عقد، ظل الأردن في قلب العاصفة: ملايين اللاجئين تدفقوا إلى أراضيه، وأعباء اقتصادية هائلة تراكمت فوق اقتصاده الهش، وخطر تهريب المخدرات والسلاح، وهو الذي بات يهدد حدوده بشكل غير مسبوق، لهذا لم يكن مفاجئا أن ترى عمّان في انهيار الدولة السورية كارثة وجودية قابلة للتمدد في كل اتجاه في الإقليم، فالفوضى شمالا تعني انفلاتا أمنيا، وتدفق موجات نزوح جديدة، وربما تمدد إسرائيل نحو الجنوب السوري، وصولا إلى تماس مباشر مع الحدود الأردنية.
من هنا ظلّت الرسالة الأردنية ثابتة، وفحواها ببساطة أنه من الأفضل لسوريا أن تبقى دولة مركزية قوية، قادرة على ضبط حدودها وفرض النظام، حتى لو كان ذلك تحت إدارة انتقالية جديدة، فوجود دولة سورية واحدة متماسكة، أقل ضررا وأكثر استقرارا من أي سيناريو تقسيمي أو فوضوي، وهذا ما يفسر أيضا انخراط الأردن سريعا مع القيادة السورية الانتقالية، بعد سقوط نظام بشار الأسد، وبروح برغماتية تسعى للتأقلم مع الواقع الجديد من دون التخلي عن الثوابت المرتبطة دوما بالأمن الأردني واستقراره.
لم يعد الأردن يكتفي بدور المتلقي للصدمة أو المعني بإدارة التداعيات، بل بات وسيطا وضامنا إقليميا
لكن الجديد في المشهد، أن الأردن لم يعد يكتفي بدور المتلقي للصدمة أو المعني بإدارة التداعيات، بل بات وسيطا وضامنا إقليميا، فاستضافته جولتين من الحوار بين وفود سورية وأميركية، في 19 يوليو/تموز و12 أغسطس/آب، تؤكد أن عمّان تحولت إلى منصة ثقة بين أطراف دولية وإقليمية متباينة، وهذا الدور لم يأت من فراغ، بل من شبكة علاقات صاغها الأردن بعناية: قناة مع دمشق، وصلات وثيقة مع واشنطن، وتواصل مباشر مع العشائر، والقوى المحلية في الجنوب السوري.
الملك عبد الله الثاني، وضع النقاط على الحروف خلال لقاءاته مع الوفود، مؤكدا استعداد الأردن لتسخير خبراته الأمنية والسياسية واللوجستية، لدعم جهود الاستقرار، مع التشديد على أن أولوية بلاده تبقى وقف تهريب المخدرات والسلاح عبر الحدود، ومكافحة التنظيمات المتطرفة، التي ما زالت تحاول إعادة إنتاج نفسها في الفراغ السوري، فبالنسبة للأردن، أمن حدوده الشمالية هو خط أحمر لا يحتمل المساومة أو التأجيل.
ومع ذلك، يعرف الأردن أن قدرته وحدها لا تكفي، من هنا جاء التنسيق اللافت مع السعودية، الذي سبق الاجتماع الثلاثي مباشرة، من خلال زيارة الملك عبد الله الثاني إلى مدينة نيوم، ولقائه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في 11 أغسطس، والتي كانت مؤشرا على تفاهم استراتيجي أوسع، يتجاوز العناوين المعلنة عن القضية الفلسطينية إلى قلب الملف السوري.
التقاسم الوظيفي بدا واضحا: السعودية بكل ثقلها السياسي الإقليمي المكرس باعتراف المجتمع الدولي بما فيه واشنطن، وقدرتها الضخمة كقاطرة مالية، قادرة على قيادة ورشة الإعمار بمليارات الدولارات من الاستثمارات، والأردن يقدم خبرته الأمنية، وضبط حدوده ومعرفته الدقيقة بالجنوب السوري. بهذا التكامل، تتشكل مقاربة عربية مختلفة، تسعى إلى تثبيت عودة سوريا إلى محيطها العربي.
ورشة الإعمار تفتح بدورها بابا جديدا للرهانات والهواجس معا، فرفع العقوبات الغربية عن دمشق الجديدة بعد انتقال السلطة، أزال عائقا كان يحول دون تدفق الاستثمارات، مما جعل دمشق توقع عقودا بمليارات الدولارات مع شركات من قطر والإمارات والسعودية وإيطاليا وتركيا، إضافة إلى تحالفات أميركية في قطاع الطاقة. لكن التحدي الحقيقي، لا يكمن فقط في المال، بل في الحوكمة والشفافية، فإعادة الإعمار بلا آليات نزيهة، قد تعيد إنتاج الفساد والمحاصصة التي عانى منها العراق ولبنان.
هنا يظهر الدور العربي، وخاصة الأردني–السعودي، والذي يهدف إلى الدفع باتجاه ربط الدعم الاقتصادي بالإصلاحات السياسية والأمنية، وضمان أن يستفيد جميع السوريين من ثمار الإعمار، من دون إقصاء أو تهميش.
وبالنسبة للأردن، ثمة بعد اقتصادي مباشر أيضا، فالمقاولون الأردنيون وقطاع الإنشاءات جاهزون للإسهام، وإعادة فتح معبر نصيب ستنعش تجارة كانت قبل الحرب تصل إلى نصف مليار دولار سنويا، وتنعكس إيجابا على اقتصاد الجنوب السوري والأردن معا.
هذا الاستعداد الأردني تعكسه حركة ماراثونية قوية لحكومة الدكتور جعفر حسان، بدأت بعمليات إصلاح اقتصادي وإداري ضخمة، بإشراف مكتب رئيس الوزراء نفسه، وقد رافقتها تحولات وتغييرات تشريعية تفرضها الضرورة الإصلاحية للنهوض بكل قطاعات الدولة، لتحقيق فكرة التكامل مع القطاع الخاص الأردني ودمجه في عملية الإنتاج الاقتصادي، كما يجب أن يكون دوره الحقيقي، لا في التعافي محليا وحسب، بل في الانخراط إقليميا بكل المشاريع الممكنة والتكاملية، وهو ما سيتم الإعلان عنه كوحدة متابعة حثيثة للتحديث الاقتصادي المطلوب، في موعد لا يتجاوز نهاية أغسطس الجاري.
لكن بالعودة إلى الملف السوري، ومن زاوية أمنية أكثر حساسية، تبقى المعادلة الأصعب في ملف التطرف، فسقوط الأسد لم ينه المعركة مع الإرهاب، بل ربما فتح فصلا جديدا منها، والأردن لديه لذلك وعي مشوب بالقلق، فهو يوازن بين الانخراط مع دمشق الجديدة لسحب الذرائع من المتشددين، وبين خطاب داخلي صارم يرفض أي تساهل مع الفكر المتطرف، والاجتماع الثلاثي أكد أن مكافحة الإرهاب ستظل أولوية، وأن التنسيق الأمني بين الأردن وحلفائه سيكون جوهر المرحلة المقبلة.
ما يحاول الأردن فعله اليوم هو تجاوز دور المتأثر بالأزمة، إلى دور صانع الحل، لكن ببرغماتية تقرّ بحدود إمكانياته، التي يحاول أن يوسعها بصبر وثبات من خلال الإصلاحات الاقتصادية والإدارية
برأيي، ما يحاول الأردن فعله اليوم، هو تجاوز دور المتأثر بالأزمة، إلى دور صانع الحل، لكن ببرغماتية تقرّ بحدود إمكانياته، التي يحاول أن يوسعها بصبر وثبات من خلال الإصلاحات الاقتصادية والإدارية، وتأهيل قدرات القطاع الخاص. فهو لا يمتلك ثقل النفط، لكنه يمتلك ثقل الموقع والخبرات المعرفية، والسعودية في حالة تكاملية معه، تمده بالغطاء المالي والسياسي اللازم، لتتشكل معادلة عربية جديدة تقول للمجتمع الدولي، إن العرب قادرون على تولي ملفاتهم بأنفسهم إذا توفر الحد الأدنى من التوافق.
إنها لحظة مفصلية في المشرق، فإذا نجحت التجربة السورية الانتقالية في العامين المقبلين، قد تكون نموذجا نادرا لتجاوز الحروب الأهلية بالإرادة الداخلية، والدعم العربي والدولي، أما إذا فشلت، فإن خطر البلقنة والفوضى سيهدد سوريا والإقليم بأسره، وفي الحالتين، يبقى الأردن في قلب المعادلة، مدركا أن أمنه القومي ومستقبل حدوده واستقراره الاقتصادي كلها، رهينة بقدرته على المشاركة في اجتراح الحلول، لا في إدارة الأزمات وترحيلها للمجهول.