الأردن بين الخطة المرسومة بعيدا والتحديات الداخلية

عمان لا تملك رفاهية الانتظار طويلا

الأردن بين الخطة المرسومة بعيدا والتحديات الداخلية

استمع إلى المقال دقيقة

من يراقب السياسة الأردنية، يدرك أن عمان لا تفاجأ بسهولة، فهي لا تتحرك على إيقاع التصريحات، بل على ثقل الموازين، وحين ترمى على الطاولة خطط أميركية تُرسم في واشنطن وتُطبخ في تل أبيب، لا تهرول عمان إلى إصدار الأحكام، ولا تكتفي برفع الصوت، بل تختار الإصغاء أولا، وقراءة الفراغ بين السطور، حيث غالبا يُكتب الجزء الأخطر من أي تسوية، ففي هذه المنطقة، الهدنة ليست دائما فرصة للسلام، بل أحيانا مجرد استراحة محارب، والأردن- بخبرته الطويلة مع طبائع النار السياسية- يعرف أن ما يسمى وقف إطلاق نار، قد يكون مقدمة لمرحلة أشد تعقيدا، لا خاتمة لها، ولهذا يتعامل مع كل خطة، حتى لو جاءت بتوقيع حليف، كملف يتم تفكيكه بندا بندا، لا كبيان يُصفق له في مؤتمر صحافي.

في أول بدايات الحديث "والتسريبات" التي بدأت عن خطة ترمب، لوقف إطلاق النار في غزة، لم يكن المشهد في عمان يشبه الارتياح ولا القلق، بل بدا وكأن العاصمة الأردنية، تستعيد تجربتها الطويلة في فهم المزاج الأميركي، والتعامل مع مزاجية تل أبيب، ذلك أن الخطة، بقدر ما تحمل من وعود بالتهدئة، ووقف شلال الدم، فإنها في تفاصيلها تشي بما هو أكثر من وقف نار، وأقل من حل.

الجدل الأميركي الإسرائيلي حول بعض بنود الخطة، وخاصة تلك التي تتعلق بإعادة الإعمار والضمانات الأمنية، لم يكن مجرد تباين في وجهات النظر بين تل أبيب وواشنطن، بل عكس صراعا خفيا بين حسابات ترمب من جهة، وسلوك حكومة نتنياهو، التي ترى في أي وقف للنار خسارة استراتيجية، ما لم يُترجم إلى نزع سلاح "حماس" كليا، وإعادة هندسة غزة سياسيا، فبينما واشنطن تسوق لمبادرة توقف الحرب وتحفظ ماء الوجه، فإن تل أبيب تريد مواصلة الحرب وتحفظ الأمن بالقوة وحدها.

لدى الأردن قناعة شبه راسخة، بأن تل أبيب غير مستعدة لتقديم أي تنازل يُعيد الاعتبار للحق الفلسطيني

وسط هذه الثنائية المقلقة، يطل الأردن من نافذته الصعبة، فلا هو قادر على التأثير في العمق الأميركي، ولا هو مطمئن إلى أن إسرائيل تصغي فعلا لواشنطن، مع قناعة شبه راسخة، بأن تل أبيب غير مستعدة لتقديم أي تنازل يُعيد الاعتبار للحق الفلسطيني.

لكن في الداخل، تتجاوز المسألة هذه الحسابات، لأن كل ما يجري في غزة ينعكس– بالضرورة- على الشارع الأردني، ويحرك الغضب الكامن، في جيل لم يعد يثق بالبيانات والتصريحات، ولا يصدق المبادرات، ويرى في كل تسوية جديدة، نوعا من التنازل المتكرر، عن حقوق لم تُحصن يوما، بل تم إضعافها مرارا تحت عناوين الواقعية والبرغماتية.

من هنا تبدو الحكومة الأردنية، وكأنها تسير فوق خيط مشدود، فهي مطالبة بحماية أمنها الداخلي، ومنع الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة، مع مزاج شعبي جارف، وهي في الوقت ذاته، مضطرة للحفاظ على علاقتها الحيوية مع واشنطن، دون أن تقايض ثوابتها السياسية في الملف الفلسطيني، وفي خلفية كل ذلك، يعيش الأردن حالة تأهب هادئ، يُدير الأزمة بذكاء، دون أن يرفع صوته أكثر من اللازم، لكن أيضا دون أن يبتلع لسانه، ويبدو واضحا من خلال كل ذلك، أن الموقف الأردني، يحاول أن يقرأ ما بين سطور خطة ترمب، بحثا عن معابر ممكنة، يمكن ترتيبها نحو صيغة تُرضي واشنطن، دون أن تُفخخ الداخل الأردني أو تُشعل الحدود الغربية بتوترات جديدة.

فالخطة، وإن كانت تتحدث عن إعادة المدنيين شمالا وإدخال المساعدات، إلا أن غياب أي إشارة جادة إلى آلية تفاوضية سياسية، أو إلى إطلاق مسار دولي ملزم لإقامة الدولة الفلسطينية، يجعل منها أقرب إلى هدنة طويلة الأمد، منها إلى حل دائم، وهذا ما يخشاه الأردن تحديدا، أن تتحول هذه الهدنة إلى محطة لتصفية سياسية باردة للقضية، وأن يتحمل الأردن تبعاتها الثقيلة جدا دون أن يكون له رأي في صيغتها.

الصمت الأردني الظاهر لا يعني القبول، بل هو أقرب إلى الإنصات المتحفظ، بانتظار أن تتضح معالم الخطة على الأرض، لا في بيانات الصحافة

يعرف الأردن أن إسرائيل، لن توافق بسهولة على أي خطة أميركية، حتى لو جاءت من صديق مثل ترمب، ويعرف أيضا أن ما يُطبخ بين واشنطن وتل أبيب، غالبا لا يُعرض على باقي الأطراف، بل يُقدم لهم لاحقا كأمر واقع، لذلك، فإن الصمت الأردني الظاهر لا يعني القبول، بل هو أقرب إلى الإنصات المتحفظ، بانتظار أن تتضح معالم الخطة على الأرض، لا في بيانات الصحافة، ولأن الأردن ليس طرفا محايدا في هذه الحرب، بل هو الطرف الذي يشعر بارتدادها على أمنه وديموغرافيته ومجتمعه، فإنه لا ينظر إلى وقف إطلاق النار كإنجاز، بل كمرحلة دقيقة قد تحمل في طياتها اختبارا سياسيا جديدا، سيكون عليه أن يتعامل معه بمزيج من الواقعية والرفض، وبذكاء دبلوماسي لا يُغضب الحلفاء، ولا يخدع الناس أو يثيرهم.

وعليه فلا بد من الإشارة إلى أن ما يُقال في الغرف المغلقة في عمان، مختلف عما يُقال في المؤتمرات الصحافية، فهناك خشية حقيقية من أن يتحول هذا الاتفاق إلى صيغة، تصب في مصلحة إسرائيل وحدها، وتعيد إنتاج غزة كمنطقة منزوعة السيادة، محاصرة سياسيا واقتصاديا، بينما تبقى الضفة مجمدة في مشهد أمني طويل، وتُنهك القيادة الفلسطينية أكثر فأكثر.

ولعل من اللافت أن تزامن الكشف عن خطة ترمب والبدء في تفعيلها، قد جاء مع صدور الأحكام القضائية في عمان، بحق ما عرف إعلاميا بالخلية الإجرامية التابعة لجماعة "الإخوان المسلمين"، وهم المنبع التاريخي لفكرة حركة "حماس"، وهي القضية التي شغلت الرأي العام، وشهدت تتبعا أمنيا وقانونيا دقيقا، بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فالأحكام التي تراوحت بين البراءة والسجن، وبلغت أقصاها خمسة عشر عاما، فاجأت الكثيرين، لا فقط لمحتواها القانوني المنضبط بقواعد العدالة القانونية، بل لأنها بعثت برسالة بالغة الذكاء السياسي، بأن الدولة الأردنية، ورغم كل الضغوط والقلق الإقليمي، لا تزال تحكم بالعدل والقانون، وترفض الانجرار نحو منطق الانتقام أو المحاكمات السياسية، لقد كان ذلك حكما بوجه داخلي، ورسالة موجهة للخارج، وتحديدا إلى من يستبيح المدن والقرى والأطفال، تحت راية الأمن القومي، وأن هناك فرقا بين دولة تحكمها النصوص، وأخرى تحكمها شهوة الدم، وفي لحظة إقليمية تنفلت فيها المعايير، قررت عمان أن تتمسك بالقانون، لا بالشعبويات ولا بمنطق الانتقام السياسي "رغم الضغوط"، لكي تقول ضمنا إن ما يحدث في غزة، لن يدفعها إلى التخلي عن ميزان العدالة، مهما كان الثمن.

تسعى الأردن إلى تحويل "خطة ترمب"، إلى مبادرة دولية أكثر توازنا، تُعيد الاعتبار للحل الشامل، وتكف يد الاحتلال عن خنق الحلم الفلسطيني كلما اقترب من الحياة

لا يملك الأردن رفاهية الانتظار طويلا، ولا يمكنه القفز عن حقائق الجغرافيا السياسية، ولا عن تطلعات مجتمعه، لذلك، فإن أقصى ما يسعى إليه الآن، هو أن يعدل مسار المبادرة الأميركية، أو أن يساهم بهدوء في تحويلها من "خطة ترمب"، إلى مبادرة دولية أكثر توازنا، تُعيد الاعتبار للحل الشامل، وتكف يد الاحتلال عن خنق الحلم الفلسطيني كلما اقترب من الحياة.

في المحصلة، فإن ما يواجهه الأردن اليوم، لا يُدار بالحدس وحده، فالخارج يراقب، وكثير منه يتربص الفرص، لكن الداخل هو من يقرر صلابته، فالجدار لا يتداعى من العواصف فقط، بل من الشقوق التي تُترك بلا انتباه، وإن لم تُرمم هذه الشقوق مبكرا، فستُضعف قدرة البلد على مواجهة العواصف حين تشتد.

font change