هل ينجح الأردن في اختبار وزنه خارج الشرق الأوسط؟

الشراكات البعيدة لا تعني شيئا إذا لم يتحول التحديث الاقتصادي إلى ممارسة يومية

هل ينجح الأردن في اختبار وزنه خارج الشرق الأوسط؟

ليس تفصيلا عابرا أن تكون المنطقة على حافة الغليان، بينما يسافر الملك شرقا نحو فيتنام وإندونيسيا وباكستان، ومن ينظر إلى الصورة بسرعة، قد يظن أن الأردن يبحث عن استراحة من زحمة الإقليم، لكن الحقيقة أبعد من ذلك، فما يجري هو إعادة ضبط هادئة لبوصلة السياسة الخارجية على نطاق أوسع من الشرق الأوسط التقليدي، وبطريقة لا يمكن فصلها عن فلسفة التحديث الاقتصادي، التي تتعامل معها الدولة اليوم كمشروع وجود لا مجرد خطة حكومية عابرة، وهي فعليا فرصة أخيرة.

الجولة الآسيوية تتقاطع مع لحظة دولية مضطربة يُعاد فيها تشكيل مراكز القوى، والاقتصادات الصاعدة في شرق آسيا لم تعد مجرد أسواق بعيدة، بل عقود ضخمة في سلاسل التوريد العالمية، وشركاء قادرون على فتح أبواب لا تستطيع الجغرافيا القريبة وحدها أن توفرها، وإذا كان الصراع في غزة يعيد خلط الأوراق السياسية والأمنية في المنطقة، فإن عمّان تدرك أنه لا يمكن البقاء على عتبة انتظار النتائج الخاضعة لمزاجيات متغيرة، بل يجب التحرك بين خطين متلازمين:

إدارة التبعات الفورية للحرب، وبناء مسارات اقتصادية طويلة المدى تحمي الدولة من تقلبات المزاج الإقليمي والدولي.

فكرة التحديث الاقتصادي كما صاغتها الدولة هي محاولة جذرية لإعادة تعريف موقع الأردن في الاقتصاد العالمي

فكرة التحديث الاقتصادي كما صاغتها الدولة هي محاولة جذرية لإعادة تعريف موقع الأردن في الاقتصاد العالمي، وليست بالمطلق مجرد تحسين مؤشرات داخلية. واختيار قطاعات كالتقنية والطاقة المتجددة والخدمات الهندسية والدواء والخدمات الرقمية لم يكن صدفة، بل رهان على مجالات قادرة على اختراق أسواق جديدة بسرعة، من هنا تصبح زيارة فيتنام جزءا من منطق اقتصادي واضح، فهي دولة صنعت انتقالها من رماد الحرب إلى قوة تصديرية متقدمة، والحديث معها ليس بروتوكولا ضائعا في ساعات طيران طويلة، بل بحث عن تصنيع مشترك وتدفق استثمارات ونقل خبرات، وبحث مصالح مشتركة وحقيقية.

إندونيسيا، بوزنها الديموغرافي والاقتصادي في العالم الإسلامي، تمثل سوقا ضخمة للقطاعات التي يراهن عليها الأردن، وبيئة تستقبل خدماته الهندسية والصناعية والتكنولوجية، وباكستان رغم أزماتها تبقى بوابة إلى فضاء أوسع يمتد من الخليج إلى الصين وآسيا الوسطى، وتمتلك حواضن صناعية يمكن البناء معها على مشاريع طاقة وزراعة ونقل وبنية تحتية، وهي ملفات جوهرية في فلسفة التحديث الاقتصادي، طبعا مع إضافة الزيارة الملكية السابقة قبل فترة قصيرة إلى اليابان، وكانت مفتاحا مهماً لإعادة تأهيل مشاريع التنمية ضمن رؤية التحديث ذاتها.

وفي المسار نفسه نحو الشرق، جاءت سنغافورة كأنها توقفٌ قصير عند فكرة أبعد من السياسة والاقتصاد، فهذه الدولة التي بنت حضورها من اتساق داخلي قبل أي تحالف خارجي، تبدو كأنها تقول إن وزن الدول لا يقاس بما تملكه، بل بما تعرف كيف تصنعه مما تملك فقط، وهناك كان النقاش هادئا، يدور حول التعليم الذي لا يتغير بتغير المزاج، والإدارة التي تحفظ إيقاعها، والاقتصاد الذي يفهم أن المعرفة ليست رفاهية بل طريق الدولة إلى المستقبل، فسنغافورة لا تعرض نموذجا يُنسخ، بل تلمّح إلى أن القوة تبدأ من فكرة واضحة عن الذات، ثم تتحول إلى موقع في العالم، وهذا تماما ما يحتاجه الأردن، وهو يحاول أن يخرج من صندوق الشرق الأوسط ليختبر وزنه الحقيقي، لا بضجيج الخطوات، بل بثباتها.

هذه الشراكات ليست ترفا سياسيا، بل ضرورة اقتصادية، فالتحديث يحتاج أسواقا وشركاء وتمويلا، والاعتماد على محور منفرد لم يعد ممكنا، كما أن تنويع العلاقات أصبح شرطا لبقاء الاقتصاد واقفا على قدميه، لا سيما في عالم يُعيد توزيع أدواره بين الشرق والغرب، ويمنح آسيا وزنا أكبر في التجارة والطاقة والصناعة.

لكن هذا المشهد الخارجي لا ينفصل عن الداخل، فأي إنجاز سياسي أو اقتصادي في الخارج يبقى هشّا إذا لم يجد قاعدة صلبة في الداخل، والتحديث الاقتصادي يحتاج إدارة عامة رشيقة، وقواعد شفافة للاستثمار، وبيئة تشجع القطاع الخاص، وثقة اجتماعية قادرة على تحمل صعوبة المراحل الانتقالية، وكل ذلك ما يزال يواجه صراعا مع البيروقراطية الثقيلة والمقلقة، والتي أصبحت حالة تعطيل في كثير من المبادرات الاستثمارية، وكذلك مواجهة صعبة مع حالة تعب عام يشعر بها المجتمع، تحت ضغط المعيشة والبطالة وموجات الأزمات الإقليمية التي لا تهدأ.

الخيط الآخر في الصورة هو غزة، وأي حديث عن مستقبل القطاع ليس شأنا فلسطينيا فقط، بل ملف أردني بامتياز، فالتبعات الأمنية والسياسية والديموغرافية لكل ترتيبات غزة تصل إلى عمّان قبل غيرها، لذلك دعمت الدولة وقف النار، لكنها قرأت تفاصيل المشهد بوعي عميق، فلا يمكن قبول تسوية تُعيد تدوير الأزمة بلا أفق سياسي، ولا يمكن التعامل مع غزة كمنطقة أمنية معزولة بلا مشروع دولة حقيقية، فذلك كله يرتد عاجلا أو آجلا على الضفة وعلى الحدود وعلى الشارع الأردني نفسه.

وسط هذا كله، تظهر الجولة الآسيوية كجزء من محاولة لحماية الدولة من زاويتين. زاوية سياسية تسعى إلى تنويع مصادر التوازن في عالم مضطرب، وزاوية اقتصادية تبحث عن أسواق وشركاء جدد يمنحون التحديث الاقتصادي قدرة أكبر على النجاح، وهذه الفكرة تحديدا هي جوهر اللحظة، فالسياسة ليست منفصلة عن الاقتصاد، والاقتصاد ليس بديلا عن السياسة، والاثنان معا يحددان قدرة الأردن على الصمود والاستمرار.

حين يعود الملك من هانوي وجاكرتا وإسلام آباد، ستظل الملفات نفسها على مكتبه في قصر الحسينية: غزة، والضفة، والحدود، والاقتصاد، وثقة الناس، لكن الفرق أن خارطة الخيارات ستكون أوسع، فهناك الآن عواصم جديدة تعرف أن في هذه المنطقة دولة صغيرة تحاول أن تصنع موقعها بنفسها، ولديها جغرافيا سياسية ثمينة وخصبة للاستثمار، فالتوسع شرقا لا يلغي الجوار، لكنه يمنح الدولة مجالا أكبر للحركة حين تضيق المساحات التقليدية.

الشراكات البعيدة لا تعني شيئا إذا لم يتحول التحديث الاقتصادي إلى ممارسة يومية تُعيد فتح نوافذ الأمل في سوق متعب ومجتمع يطلب فرصا لا وعود إنشائية

وفي النهاية يبقى الرهان الحقيقي على قدرة الداخل على ملاقاة هذه الجهود، فالشراكات البعيدة لا تعني شيئا إذا لم يتحول التحديث الاقتصادي إلى ممارسة يومية تُعيد فتح نوافذ الأمل في سوق متعب ومجتمع يطلب فرصا لا وعود إنشائية لا معنى لها، وإذا ما استطاعت الدولة أن توازن بين ضغط اللحظة الإقليمية وقوة الحركة الاقتصادية الجديدة، فقد تجد في هذا المسار ما يكفي لتخفيف أثقال المرحلة، ولو خطوة واحدة في كل مرة.

font change