التوازن الممكن... بين الحذر الأردني وتحديات التنمية الاقتصادية

ما يعرض في المنطقة ليس سلاما بل إدارة صراع

التوازن الممكن... بين الحذر الأردني وتحديات التنمية الاقتصادية

استمع إلى المقال دقيقة

في اللحظات الفاصلة من التاريخ، لا تقاس الدول فقط بما تعلن، بل بما تختار أن تخفي، وبالخطوط التي تمشي عليها بين الظلال. ولعلّ الأردن، أكثر من غيره، خبير في تلك المشية الدقيقة على الحبل المشدود، في منطقة تهتز أرضها تحت أقدام من لا يحسنون الإصغاء لصوت الجغرافيا ولا يعرفون أسرار الذاكرة.

منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تغيرت معادلات الإقليم، ولم تعد المفردات تكفي لاحتواء وقع الزلزال، فكانت قمة شرم الشيخ، التي عُرضت فيها "خطة ترمب"– في جوهرها– محاولة لتجميد المأساة لا حلها، كما أن الورقة ركزت على وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، وهو ما يشكل أولوية أردنية واضحة وثابتة، ولكنها– في الوقت ذاته– لم تقترب بحسم من جوهر الصراع والمتمثل حصرا بغياب حل الدولتين، وتجاهل الحقوق الفلسطينية، وتجاهل الأردن نفسه بوصفه طرفا لا يمكن عزله.

في التقديرات العليا داخل المطبخ السياسي الأردني، هناك إدراك هادئ لكنه صارم، مفاده أن ما يعرض في المنطقة ليس سلاما، بل إدارة صراع إلى ما لا نهاية، تحت عنوان تهدئة مؤقتة، تهدئة على سلك حذر مشدود لا تملك أن تبقي غزة حيّة ولا تنهي الاحتلال. ولأن الأردن يعرف جيدا أين تقيم الخدعة، فإنه قرأ "الخطة" ليس بما كتب فيها، بل بما غاب عنها.

في المقابلة الأخيرة مع "BBC"، قال الملك عبد الله الثاني بكل وضوح ما يقال عادة خلف الأبواب: "لا أثق بنتنياهو"، وهي عبارة، وإن بدت شخصية، إلا أنها– سياسيا– تعني الكثير، ومن ذلك أن رأس الحكومة الإسرائيلية الحالية، في نظر الأردن، هو العقبة الحقيقية أمام أي سلام، وأي استقرار، وأي حل واقعي. ولأن التاريخ الأردني مع نتنياهو ليس جديدا، فمن الإنصاف التذكير بأن الملك عبد الله نفسه سبق أن وصفه في كتابه "الفرصة الأخيرة" بنبرة مقتبسة عن إيهود باراك الذي قال فيه: "لم يترك نتنياهو حفرة إلا وقع فيها، والمشكلة الكبرى أنه لا يسقط في الحفرة وحده، لكنه يأخذ البلد برمته معه".

المفارقة المريحة أن الموقف الأردني السياسي يلقى، اليوم، تطابقا شبه كامل مع الرياض في ما يتعلق بالحرب على غزة. ولكن– وهنا بيت القصيد– هذا التوافق لا يزال يحتاج إلى ترجمته الاقتصادية الداعمة والحيوية

أما الملك الراحل الحسين، فكانت له– في لحظة مزاج غاضب قلما يحدث– رسالة قاسية لنتنياهو قال فيها: "إذا كانت نيتك استدراج إخوتنا الفلسطينيين إلى مقاومة مسلحة حتمية، فما عليك إلا أن ترسل جرافاتك إلى المكان المقترح لإقامة المستوطنات...". وكان يردد لمن حوله جملة واحدة تتكرر: "لا تثقوا أبدا بنتنياهو."

المعضلة إذن ليست في حرب وقعت، بل في رجل يقود مركبة إسرائيل إلى حافة الجنون، ومعه زمرة متطرفة لا ترى في الفلسطينيين بشرا، ولا في الأردن جارا، بل لا يرى في كل الإقليم أكثر من حديقة خلفية لمشروع استيطاني مريض. وهنا يبدأ السؤال الحقيقي الذي تطرحه الدوائر الأردنية العليا بهدوء: إذا كانت حكومة نتنياهو خطرا على الأردن، فهل يكفي أن نحذر منها؟ أم إن اللحظة تفرض الانتقال من التحذير إلى التحريك؟ هل آن الأوان لبدء هجوم دبلوماسي ناعم ضد نتنياهو نفسه، عبر مخاطبة المزاج الأوروبي "والدولي"، الذي بدأ يتغير بتغير الرأي العام نفسه، ومخاطبة المزاج الإسرائيلي الداخلي، الذي ربما بدأ يضيق برجل لا يعرف سوى الدم هو وطاقمه؟ وسياسات حكومته التي لا تتغذى إلا على إدامة الصراع في إقليم يحاول الخروج من كل أزماته وصراعاته سعيا لتحقيق منظومة اقتصادية تكاملية تتماهى مع الرؤية العالمية الجديدة قيد التشكّل والقائمة على الاقتصاد المعرفي وسلاسل التزويد المريحة وتكنولوجيا المعلومات.

المفارقة المريحة أن الموقف الأردني السياسي يلقى، اليوم، تطابقا شبه كامل مع الرياض في ما يتعلق بالحرب على غزة، هناك توافق في الرؤية، في القراءة، وفي التحذير من سيناريوهات التهجير، ولكن– وهنا بيت القصيد– هذا التوافق لا يزال يحتاج إلى ترجمته الاقتصادية الداعمة والحيوية، وهو ما بدأ يثير تساؤلات أردنية حقيقية، خصوصا أن التوافق السياسي والانسجام فيه على أعلى المستويات، مع روافع انسجام في الرؤية الأمنية للإقليم، متطابقة في كل المحاور.

الأردن، كما يعرفه القريبون منه، منفتح تماما على كل شراكة صادقة، وتكامل إقليمي فعال، خصوصا مع الشقيقة الكبرى التي تربطه بها أواصر التاريخ والجغرافيا والمصير

ففي حين يسجل التنسيق السياسي والأمني بين عمّان والرياض أعلى درجات الانسجام والعمق، لا تزال حالة التكامل الاقتصادي السعودي-الأردني بحاجة إلى خطوات داعمة، وخصوصا من جهة الصندوق السيادي الأردني-السعودي المشترك، الذي لا يزال محاصرا بين هواجس بيروقراطية من جهة، وتردد في تفعيل حالة الاستثمار في مشاريع متفق عليها من جهة أخرى.

وفي هذا السياق، فإن ما تحضّره الحكومة الأردنية من مشاريع بنية تحتية كبرى على مستوى الدولة، والتي يُنتظر أن تبدأ بالظهور كعطاءات واضحة مطلع العام القادم، يشكل فرصة حقيقية لشراكات اقتصادية إقليمية يمكن أن تكون رافعة مشتركة للنمو والاستقرار، وهذه المشاريع، التي تندرج ضمن إطار التحديث الاقتصادي الأردني، مطروحة لكل الأطراف ذات المصلحة، ولكن لبعضها- ومنها الرياض- خصوصية مضاعفة بحكم التشابك الجغرافي والأمني.

في بعض هذه المشاريع، وتحديدا في خمس مبادرات تنموية استراتيجية، هناك ما يمكن للجانب السعودي أن يراه بوصفه بنية حقيقية لتفعيل دور الصندوق السيادي الأردني-السعودي المشترك، ضمن رؤية تكاملية لا تقتصر على الاستثمار "وهو حاضر بكامل أهليته الاقتصادية"، بل تشمل التمكين الإقليمي المشترك.

التكامل، كما تفهمه عمّان، لا ينفصل عن الأمن، ولا يُختزل في الأرقام، بل يُقاس بمدى الانخراط الجاد في بناء استقرار اقتصادي طويل الأمد، يكون الأردن فيه طرفا فاعلا، لا مجرد متلقّ للمبادرات.

والأردن، كما يعرفه القريبون منه، منفتح تماما على كل شراكة صادقة، وتكامل إقليمي فعال، خصوصا مع الشقيقة الكبرى التي تربطه بها أواصر التاريخ والجغرافيا والمصير، والفهم العميق المشترك للتحديات الإقليمية والدولية على مستوى رفيع بين القيادتين.

وإذا كانت تحديات ما بعد 7 أكتوبر قد أظهرت هشاشة كثير من التصورات الإقليمية البائدة والمبنية على أدوات انقرضت في العالم الجديد والقادم، فإنها في الوقت ذاته منحت فرصة نادرة لإعادة تعريف المعقول والممكن في المنطقة، من بوابة الأمن أولا، لكن عبر الاقتصاد حتما، وما يعني قبل كل شيء تسوية الإقليم من الصراعات وبأسرع وقت ممكن.

font change