ما بعد "7 أكتوبر"... الأردن بين الغضب والتوازن

أ.ف.ب
أ.ف.ب
تظاهرة تضامنية مع الفلسطينيين، في بلدة الكرامة على الحدود مع إسرائيل، في 21 مايو 2021

ما بعد "7 أكتوبر"... الأردن بين الغضب والتوازن

منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تغيرت ملامح المشهد الأردني بصورة لافتة، فالهجوم المباغت الذي شنته حركة "حماس" على إسرائيل، وما تبعه من حرب طاحنة على قطاع غزة، لم يمرّا على عمّان مرورا عابرا، بل أحدثا رجّة على أكثر من صعيد، وتفاوتت التداعيات بكل مستوياتها بين الغضب الشعبي المتصاعد، والتحولات الدبلوماسية غير المسبوقة، وبين المخاوف من ارتدادات أمنية واقتصادية، ودخل الأردن مرحلة حساسة تطلب فيها الأمر موازنة دقيقة بين نبض الشارع ومتطلبات الدولة.

في الداخل: شارع مشتعل وضغوط متزايدة

الحدث الفلسطيني، بما يحمله من رمزية، استنهض في الأردن مشاعر جماعية طالما سكنت تحت سطح التعايش اليومي، فقد اندلعت مظاهرات واسعة النطاق، تركزت في محيط السفارة الإسرائيلية كما امتدت إلى مدن عدة، رافعة شعارات داعمة للمقاومة ورافضة للعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل، وعلت أصوات الهتافات التي طالبت بإلغاء معاهدة السلام واتفاقيات الغاز والماء، وهي مطالبات عالية الصوت لم تخرج فقط من أوساط الإسلاميين أو المعارضة، بل جاءت من طيف شعبي واسع عابر للأيديولوجيات.

الحكومة، التي وجدت نفسها أمام شارع يغلي، لجأت إلى مزيج من الإجراءات الأمنية والرسائل السياسية، وقد جرت اعتقالات واسعة طالت مئات النشطاء، وفرضت قيودا على التجمعات في بعض المناطق، لكن في الوقت ذاته، كان هناك وبوضوح، تصعيد في لهجة الخطاب الرسمي تجاه إسرائيل، وتصريحات شديدة الانتقاد للقصف على غزة، في محاولة لاحتواء الاحتقان الداخلي.

حرصت عمّان على إبقاء خيوط التواصل قائمة ولو بالحد الأدنى، وتجنبت اتخاذ خطوات قد تؤدي إلى قطيعة شاملة أو تصعيد ميداني، وبقيت معاهدة السلام قائمة من الناحية العملية

التوتر الداخلي لم يقتصر على الميدان، فالأحزاب والنقابات وشخصيات عامة بارزة، أصدرت بيانات ومواقف تعكس حجم الغليان الشعبي، حتى في الأوساط التي كانت تميل إلى الحذر، وكان هناك تعاطف واضح مع الفلسطينيين ورفض قاطع لأي سيناريو تهجير جديد قد يُطرح خلف الكواليس.

في الخارج: دبلوماسية بين الغضب والحذر

على الصعيد السياسي الخارجي، أظهر الأردن موقفا علنيا أكثر صرامة مما اعتاد في أزمات سابقة. فقد استُدعي السفير الأردني من تل أبيب، كما طُلب من نظيره الإسرائيلي مغادرة عمّان، وتم تعليق مشاريع مشتركة، بينها اتفاق تبادل الماء مقابل الطاقة المهم جدا للأردن على صعيد أزمة المياه التي يعاني منها بشدة، كما طُرحت مراجعة علاقات استراتيجية قائمة منذ عقود.

أ.ف.ب
أردنيون يتظاهرون قرب السفارة الإسرائيلية في عمّان، 28 مارس 2024

لكن رغم هذا التصعيد، حرصت عمّان على إبقاء خيوط التواصل قائمة ولو بالحد الأدنى، وتجنبت اتخاذ خطوات قد تؤدي إلى قطيعة شاملة أو تصعيد ميداني، وبقيت معاهدة السلام قائمة من الناحية العملية، واستمر التنسيق الأمني عبر قنوات خلفية، لا سيما في ملفات الحدود والطاقة والمياه، ولم يكن ذلك تراجعا، بل كان جزءا من استراتيجية "توازن بالغضب" اختارتها القيادة الأردنية في لحظة حرجة، هذه الدبلوماسية القوية انعكست على النخب الأردنية بين مؤيد لها مع دعوات إلى التصعيد أكثر، ومن خالفها وتمسك بالحذر الشديد من كلفها الراجعة ولو بعد حين على الأردن في كل المستويات.

الأكثر لفتا للانتباه يوم قمة شرم الشيخ، كان في تصريحات الملك عبدالله الثاني بأنه لا يثق بنتنياهو، وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يريد السلام ويرفض حل الدولتين

الدكتور عامر السبايلة، وهو محلل استراتيجي، يرى أن الدبلوماسية الأردنية في غضبها لم تراع الحذر كثيرا من كلف التصعيد السياسي. وحسب رأيه فإن ما حصل فعليا من تصعيد دبلوماسي أردني أنه نقل الأزمة الإقليمية إلى الداخل الأردني على حساب المشاكل الداخلية من بطالة وفقر وتطرف. ويضيف أن الخطأ كان في وضع أولوية للملف الإقليمي المرتبط بغزة تحديدا على حساب ملفات محلية أكثر إلحاحا. وحسب رأيه فإن الدبلوماسية الأردنية بالتصعيد كانت تصب في صالح الأدبيات "الإخوانية" في الداخل الأردني والتي عززت الموقف "الحمساوي" من خلال التصريحات الرسمية نفسها وأعطاها دفعة قوية، وانتهى الأمر إلى انتصار التيار الإخواني "المندفع نحو حماس" إلى الانتصار في الانتخابات النيابية، وهذه السياسة– حسب قوله– خلقت انطباعا بأن الأردن جزء من الصراع الدائر في غزة، فيما الأردن فعليا ليس كذلك.

وعلى عكس ما يراه السبايلة، فإن الدكتورة نادية سعد الدين، وهي محللة سياسية وأكاديمية أردنية، ترى أن التحديات السياسية والأمنية جعلت خيارات الأردن محدودة، وذلك في ظل مساعيه للموازنة بين تدعيم استقرار الجبهة الداخلية وحماية أمنه الوطني وثبات مواقفه المبدئية الداعمة للحقوق الفلسطينية، مقابل التصدي للسلوك الإسرائيلي العدائي والمتطرف، وهي محاولات ليست سهلة حسب وصفها.

وترى أن دعوات أوساط سياسية داخلية لتخفيف حدة الموقف الرسمي بسبب كلفته الكبيرة لا ترتقي إلى مستوى حراجة وخطورة المرحلة، كما أنها لا تنسجم مع الموقف الشعبي الغاضب من جرائم الاحتلال والمطالب برد فعل أقوى، وتضيف الدكتورة سعد الدين أن ما يعزز الموقف الرسمي الأكثر ثباتا كان في عودة مخطط التهجير القسري للفلسطينيين إلى الواجهة بقوة، في ظل مساعي الاحتلال لتنفيذه في غزة، تمهيدا لتكرار المشهد في الضفة الغربية، والتي تشكل خطا أحمر بالنسبة للأردن، فضلا عن تبني المسؤولين في الكيان المحتل مواقف متطرفة على شاكلة "إسرائيل الكبرى" التي تشمل الأردن والدول العربية المجاورة، بما يشكل تهديدا وجوديا للأردن وتصفية للقضية الفلسطينية، ويجدد المطامع التوسعية الصهيونية في المنطقة.

الملك ونتنياهو: تراكمات من انعدام الثقة

لكن الأكثر لفتا للانتباه يوم قمة شرم الشيخ، كان في تصريحات الملك عبدالله الثاني لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، حيث قال الملك عبد الله الثاني على أعتاب انعقاد القمة التي حضرها "وأثار الجدل فيها" الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إنه  بصراحة لا يثق بنتنياهو، وإن رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يريد السلام ويرفض حل الدولتين، وأضاف أن حل الدولتين هو الطريق الوحيد للسلام الحقيقي، محذرا من أن البدائل هي استمرار العنف، وتداعيات خطيرة على الجميع، وهذا الموقف الأردني الذي يعيد تثبيته الملك بتصريحاته يعكس حذرا من "خطة ترمب" المعروضة والملتبسة، لكن الأردن يرحب في هذه المرحلة بأي مبادرة تفضي إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة.

لم يكن الاقتصاد بمنأى عن الهزات. فالقطاع السياحي، الذي بدأ يتعافى تدريجيا بعد جائحة كورونا، تلقى ضربة قاسية بفعل تراجع الحجوزات والخوف من امتداد التوتر إلى المملكة

وهذا الموقف من نتنياهو ليس جديدا في جوهره، فالملك عبد الله سبق أن كتب في كتابه "الفرصة الأخيرة" مقتبسا عن إيهود باراك، الذي وصف نتنياهو بقوله: "لم يترك نتنياهو حفرة إلا وقع فيها، والمشكلة الكبرى أنه لا يسقط في الحفرة وحده لكنه يأخذ البلد برمته معه".

وبعد عقد وثلاثة أعوام، فإن الحفرة التي يعد نتنياهو نفسه للسقوط فيها كبيرة، تتسع للإقليم كله، في عالم لا يحتمل بالمطلق هزات جديدة ولا حروبا لا نهايات لها.

منذ بداية الحرب الأخيرة التي كانت في الحقيقة انفجارا فلسطينيا حتميا، صنعته تراكمية سياسات التطرف التي صاغها على مهل بنيامين نتنياهو وطوال سنوات، وأنا أحاول فهم تلك الشخصية القلقة والمقلقة في التاريخ السياسي الحديث للشرق الأوسط.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والملك عبد الله الثاني خلال قمة شرم الشيخ حول غزة في 13 أكتوبر 2025.

شخصية دفعت رجلا معروفا بهدوئه وإيمانه اليقيني بالسلام مثل الملك الراحل الحسين بن طلال أن يوجه رسالة قاسية مليئة بالتقريع لنتنياهو عام 1997، قال فيها الملك الراحل:

"إذا كانت نيتك استدراج إخوتنا الفلسطينيين إلى مقاومة مسلحة حتمية، فما عليك إلا أن ترسل جرافاتك إلى المكان المقترح لإقامة المستوطنات دون أن تفعل شيئا للاعتراف بمشاعر الفلسطينيين والعرب وغضبهم وشعورهم باليأس، ودون أن تقوم بتحسين هذا الوضع من قواتك المسلحة القوية التي تحيط بالمدن الفلسطينية بارتكاب الجرائم، بما قد ينتج عنه هجرة جديدة للمعذبين من الفلسطينيين من بلادهم وبلاد آبائهم، فتكون بذلك قد أنهيت عملية السلام إلى الأبد... لماذا هذا الإذلال المستمر والمقصود لمن يسمون شركاءك في السلام من الفلسطينيين؟

ومن المرويات في سيرة الملك الحسين بن طلال، أن الملك الراحل كان دوما يردد على مسامع رجاله: "لا تثقوا أبدا بنتنياهو"، وهو ما نسمعه من الملك عبدالله الثاني نفسه قبل أيام، فيما يبدو أنها حكمة موروثة وراسخة.

الاقتصاد والمجتمع

لم يكن الاقتصاد بمنأى عن الهزات. فالقطاع السياحي، الذي بدأ يتعافى تدريجيا بعد جائحة كورونا، تلقى ضربة قاسية بفعل تراجع الحجوزات والخوف من امتداد التوتر إلى المملكة، فانخفضت إشغالات الفنادق، وتراجعت عوائد السياحة بشكل محسوس، ما انعكس على الإيرادات العامة ومداخيل آلاف العاملين في هذا القطاع الحيوي.

التباطؤ طال قطاعات أخرى مرتبطة بالاستقرار الإقليمي، وسط حالة من الحذر لدى المستثمرين وتراجع نسبي في ثقة الأسواق.

كشفت أزمة 7 أكتوبر أن الأردن ليس مجرد جار صامت للنكبات الفلسطينية، بل فاعل يتأثر ويتفاعل، وفق حسابات دقيقة لا يمكن فصلها عن تاريخه وجغرافيته وتركيبته السكانية

أما على المستوى الشعبي، فقد عمّق الحدث الشعور بالوحدة الوطنية، لكنه في الوقت ذاته أيقظ القلق المزمن من سيناريوهات التهجير، والضغوط الخارجية، واحتمالات الانزلاق نحو صراعات لا طائل منها.

المجتمع الأردني تفاعل بقوة مع الحرب، ليس فقط عبر المظاهرات، بل من خلال حملات التبرع والمساعدات التي انطلقت من أحياء شعبية وفعاليات أهلية. في المقابل، برزت أصوات تحذر من الانفعال الزائد الذي قد يستدرج المملكة إلى مواقف تتجاوز قدرتها على الاحتمال.

التوازن الممكن في زمن المستحيل

لقد كشفت أزمة 7 أكتوبر أن الأردن ليس مجرد جار صامت للنكبات الفلسطينية، بل فاعل يتأثر ويتفاعل، وفق حسابات دقيقة لا يمكن فصلها عن تاريخه وجغرافيته وتركيبته السكانية.

داخليا، واجهت الدولة اختبارا معقدا بين حماية الاستقرار والاستجابة للتطلعات الشعبية. أما خارجيا، فقد مارست الدولة دبلوماسية الغضب دون انتحار سياسي، وحافظت على مكانتها كوسيط عقلاني في منطقة تغلي.

الحدث لم ينته بعد، لكن ما بعد 7 أكتوبر ليس كما قبله، فالأردن بات أكثر يقظة، وأكثر حساسية لما يدور حوله، وأكثر إدراكا أن الهامش يضيق، وأن التوازن لم يعد ترفا، بل ضرورة بقاء لا مجال للتفريط بها.

font change

مقالات ذات صلة