الأردن بين مدينة جديدة وعواصف كامنة

فرصة فريدة

الأردن بين مدينة جديدة وعواصف كامنة

ليس تفصيلا عابرا أن تعلن الحكومة إطلاق مدينة عمرة في لحظة إقليمية شديدة الاضطراب، فالمشهد يبدو وكأن بلدا صغيرا يحاول أن يفتح نافذة على المستقبل بينما تهب حوله رياح صاخبة خلفها تغيرات إقليمية حان وقت استحقاقها، فمن غزة المعلّقة على خيط هدنة هش، إلى لبنان الذي يبحث عن صيغة توازن جديدة وجذرية، مرورا باحتمالات التصعيد الممتد بين إسرائيل ومحورها الإقليمي، وفي وسط هذه الجغرافيا المشدودة يقرر الأردن أن يذهب إلى مشروع عمراني واقتصادي طويل المدى، وكأنه يقول إن إدارة اللحظة وحدها لم تعد تكفي، وإنه لا بد من بناء أفق يتجاوز الضوضاء اليومية للمنطقة.

في الإقليم لا شيء مستقر بما يكفي، غزة تعيش ما بعد الحرب في ظل دمار ثقيل وتعقيدات إنسانية مفتوحة، والحدود الشمالية بين لبنان وإسرائيل لا تزال مساحة اختبار لمعادلات حساسة، فيما تتغير خرائط الاصطفافات الإقليمية بسرعة تجعل كل دولة في المنطقة مضطرة لإعادة تعريف موقعها ودورها، وهذا المشهد الضاغط يضع الأردن أمام معادلة صعبة: كيف يحافظ على دوره التقليدي كدولة توازن في إقليم متوتر، وفي الوقت نفسه يفتح أبوابا جديدة للنمو والتنمية تضمن له القدرة على الصمود؟

هنا تحديدا يظهر معنى إطلاق مدينة عمرة، المدينة ليست مجرد مشروع عمراني، بل إعلان عن نية الدولة نقل مركز الثقل نحو شرق عمان، وبناء نواة حضرية جديدة قادرة على امتصاص الضغط المتزايد على العاصمة، وخلق بيئة استثمارية حديثة تستند إلى بنية تحتية مخططة من البداية، واعتماد المدينة على أراض مملوكة للخزينة وعلى شبكة طرق دولية يفتح الباب لتصور مختلف عن علاقة الأردن بمحيطه: مدينة تولد من رحم الصحراء لتكون جسرا اقتصاديا على مستوى إقليمي، لا مجرد توسع جغرافي.

فالمدينة الجديدة جزء طبيعي من رؤية التحديث الاقتصادي، وتسبقها فكرة أبعد من العمران: ربط الاقتصاد الأردني بالإقليم عبر تكامل حقيقي، لا عبر مجرد تجارة حدودية عابرة، ومجمل منظومة التحديث الاقتصادي في الأردن يحتاج إلى أسواق أكبر من حدود البلد، والحاجة إلى تدفق استثمارات وطاقات ومشاريع تتجاوز حجم السوق المحلية، وهذا لا يتحقق دون دبلوماسية نشطة، توظف موقع الأردن الجغرافي ووزنه السياسي لخلق شبكة مصالح اقتصادية مع الخليج والعراق ومصر، ومع محاور لوجستية جديدة تتشكل على امتداد المنطقة.

بين الخليج والعراق ومصر، تتشكل اليوم خارطة اقتصادية جديدة تبحث عن ممرات آمنة ومراكز لوجستية مستقرة، والأردن في قلب هذه المعادلة

هنا يصبح للمدينة معنى أوسع: فإذا كانت عمان اليوم مركز الإدارة والسياسة، فإن عمرة يمكن أن تصبح مركزا للعلاقات الاقتصادية الإقليمية، وبوابة متقدمة نحو السعودية والعراق، وامتدادا طبيعيا لمشاريع الربط والنقل والطاقة التي يعاد رسمها في المنطقة، فالتكامل الاقتصادي الإقليمي لم يعد فكرة رومانسية يتم توظيفها في خطابات المجاملات، بل ضرورة للجميع خصوصا لدول متوسطة الحجم تبحث عن زيادة قدرتها على التنافس والاستقرار.

المشروع الحكومي للمدينة يتحدث عن جدول زمني واضح: مخطط شمولي انتهى العمل عليه، مرحلة أولى تبدأ في مطلع 2026، ومدينة تفتح أبوابها– للمرحلة الأولى- في حدود 2030. هذه ليست مجرد تواريخ، بل إشارة إلى أن الدولة تريد أن تذهب إلى مشروع طويل الأمد يتجاوز أعمار الحكومات والبرلمانات، ويخلق مسارا مستقلا نسبيا عن إيقاع السياسة اليومية.

لكن نجاح المدينة لن يقاس بالخرسانة الإسمنتية وحدها، بل بقدرتها على أن تكون جزءا من منظومة اقتصادية متكاملة، فلا فائدة من مدينة حديثة في شرق عمان إذا بقي الأردن خارج ممرات الطاقة الإقليمية، أو بعيدا عن شبكات النقل العابرة، أو غير مندمج في أسواق المنطقة، لهذا يصبح على الدبلوماسية الأردنية أن تتحرك بواقعية ومرونة، فتقرأ التحولات التي تجري في الخليج، وصعود أدوار اقتصادية جديدة في السعودية تحديدا، وتغير شكل التحالفات في المنطقة من قواعد أمنية تقليدية إلى مصالح اقتصادية أكثر وضوحا.

والحقيقة أن الأردن يمتلك فرصة فريدة،  فبين الخليج والعراق ومصر، تتشكل اليوم خارطة اقتصادية جديدة تبحث عن ممرات آمنة ومراكز لوجستية مستقرة، والأردن في قلب هذه المعادلة، ومشروع عمرة يعطي هذه الفكرة بعدا ملموسا، لأنه يقدم مساحة قابلة لاستقبال استثمارات ضخمة، وشركات، وتجمعات سكانية واقتصادية مخططة منذ لحظتها الأولى.

يقف الأردن أمام خيار واضح: إما أن يبقى رهينة تقلبات الإقليم، وإما أن يجعل من التحديث الاقتصادي ومن المدينة الجديدة تحديدا جسرا نحو تكامل إقليمي أوسع

المشهد الداخلي خلال الأيام الماضية يؤكد هذا الاتجاه: من إطلاق المدينة الجديدة، إلى مشاريع استثمارية تتسارع في عمان، إلى حديث حكومي متكرر– وجاد بحسم- عن ضرورة حماية مسار التحديث الاقتصادي وتثبيت قواعده، والاختبار الحقيقي ليس في إعلان المشاريع، بل في قدرة الدولة على ربطها بسياق إقليمي أوسع، والتعامل مع التحولات الجيوسياسية باعتبارها فرصا لا مجرد تهديدات، ولعل أحد أكبر المؤشرات التي لا يراها أحد وتجري خلف الكواليس تكمن في إدارة رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان الشخصية لمشروع المدينة في عمرة، ومتابعته مع فريق متخصص ومتنوع محترف كل تفاصيل المشروع الذي كان فكرة بدأت في حكومة الدكتور هاني الملقي قبل أن توقفه "بقناعة عدم جدواه" حكومة الدكتور عمر الرزاز، ليتم الحديث عنها من جديد في حكومة الدكتور بشر الخصاونة وقد كان الدكتور حسان آنذاك مديرا لمكتب الملك يعمل على دفع المشروع وترتيب طاقمه المحترف مبكرا.

في النهاية يقف الأردن أمام خيار واضح: إما أن يبقى رهينة تقلبات الإقليم، وإما أن يجعل من التحديث الاقتصادي ومن المدينة الجديدة تحديدا جسرا نحو تكامل إقليمي أوسع، يوفر أسواقا وفرصا واستثمارات، ويخلق مناخا تنمو فيه المدن على قاعدة مصالح مشتركة لا على حافة العاصفة، فإذا تحولت عمرة إلى منصة لهذا التكامل، فإنها ستكون أكثر من مدينة جديدة، ستكون محاولة لإعادة تعريف موقع الأردن نفسه، أما إذا بقيت معزولة عن سياقها الإقليمي، فإنها ستبقى مجرد حلم جميل في صحراء مضطربة.

font change