حرب أوكرانيا وثلاث طرق جديدة للسلام

حرب أوكرانيا وثلاث طرق جديدة للسلام

استمع إلى المقال دقيقة

في ضوء لقاءات ألاسكا وواشنطن حول الحرب في أوكرانيا وسبُل إنهائها، يمكن الاستنتاج أن صراعات العالم المعاصر قد تجد حلولها من خلال ثلاث طرق، تتناسب مع تهديدها للمصالح الاقتصادية الكبرى واستقرار الدول المتقدمة، وتنأى بصراحة ومن دون تردد عن القواعد التي حاول المجتمع الدولي صوغها خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية.

الانتقال الذي يخطو كل يوم خطوة جديدة نحو إحياء دبلوماسية أشبه ما تكون بـ"دبلوماسية البوارج" في القرن التاسع عشر، حيث الاعتماد على القوة العارية لإقناع الآخرين بالأهداف السياسية، لم يحدث دفعة واحدة، بل قد يصح وضع نقطة انطلاق الانتقال هذا، عند اندلاع الحرب الكورية مطلع خمسينات القرن الماضي عندما تغيب الاتحاد السوفياتي عن جلسة لمجلس الأمن للتصويت على وقف الحرب في شبه الجزيرة، فصدر قرار دولي بتشكيل قوة من الأمم المتحدة قاتلت إلى جانب القوات الجنوبية والأميركية ضد الكوريين الشماليين والوحدات الصينية المساندة لها.

سجّل هذا الموقف الدولي الذي اعتبر عزلا لقوة عظمى هي الاتحاد السوفياتي، بداية الانفصال العملي بين المناخات التوافقية التي سادت العالم في أعقاب هزيمة ألمانيا النازية واليابان التوسعية وبين المصالح الكبرى للدول العظمى، حيث رفضت موسكو إدانة حليفتها كوريا الشمالية مفضلة البقاء خارج الإجماع الدولي، بغض النظر عن صحة أو تهافت كل من الروايتين اللتين بررت بيونغ يانغ وسيول بهما نشوب القتال بينهما.

تراجعت الاعتبارات الجيوسياسية العريضة التي شكلت بعض أهم روافع سياسات القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين إلى ما يشبه اعتبارات تجار المفرق في أسواق البلدات والقرى

مهما يكن من أمر، تبرز من خلال المفاوضات التي رمت إلى بناء موقف غربي موحد حيال أوكرانيا بعد ابتعاد الرئيس دونالد ترمب عن الإجماع الذي نشأ بعد إطلاق الرئيس فلاديمير بوتين "العملية العسكرية الخاصة" في فبراير/شباط 2022، أن الولايات المتحدة لن تتعامل من الآن وصاعدا مع أي صراع سوى من رؤية تزداد ضيقا لمصلحتها. فإذا كان الأمن الأوروبي والدولي يعني شيئا أثناء الأشهر الأولى من الحرب الأوكرانية–الروسية بالنسبة إلى إدارة جو بايدن، فإن الرئيس الأوكراني ونظراءه الأوروبيين اضطروا إلى إعادة شرح مفصل لما يمكن أن تجنيه الولايات المتحدة من مكاسب من مساندتها كييف في الحرب. وحكي في الشهور الماضية عن صفقات المعادن النادرة الأوكرانية التي ستستحوز الشركات الأميركية على حصص كبيرة منها ثم ظهر اهتمام ترمب بصناعة المسيرات الأوكرانية.
بكلمات ثانية، تراجعت الاعتبارات الجيوسياسية العريضة التي شكلت بعض أهم روافع سياسات القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين إلى ما يشبه اعتبارات تجار المفرق في أسواق البلدات والقرى. 
وبرزت مقاربة مشابهة في حل نزاعات أماكن أخرى من العالم. حيث تساءل كثر عن القدرة على إنهاء صراع مستمر منذ ثلاثة عقود في الكونغو الديمقراطية ورواندا وإهمال صراع آخر في السودان؟ أو ما السر وراء طي نزاع مديد بين أرمينيا وأذربيجان بمعزل عن القوى المعنية أكثر من واشنطن به كروسيا وإيران؟ ربما لأن موارد مناجم الكونغو الديمقراطية أو النفط الأذربيجاني وأنابيبه أكثر إغراء وأقرب إلى فهم رجال الأعمال الأميركيين من الوضع في دارفور والخرطوم والفاشر.  

هذه هي الطريقة الأولى التي ستخاض بها الصراعات المستقبلية في بلدان العالم البعيدة عن قلب "المركز" وإمكان إيجاد تسويات لها: الفائدة الاقتصادية المباشرة. 
الطريقة الثانية، هي ترك الصراعات تتعفن إلى أن ينهار أحد الأطراف. ففي حرب تهمّ ضحاياهم وحدهم، وحيث تتولى القوى الإقليمية إمداد القتال بأسباب الاستمرار، لا يبدو أن هناك جهدا سيبذل لوقف النزيف أو العمل على إرساء السلام أو تجاوز العمل الإنساني والإغاثي المباشر. عشرات الحروب تدور من دون أن تبدو نهايتها في الأفق حيث لا فائدة، بحسب المعايير الجديدة لإنهائها. 
أما الطريقة الثالثة فهي العمل على تحطيم كامل لأحد أطراف الصراع من خلال انحياز عالمي ساحق إلى جانب الطرف المقابل، على ما نرى في الحرب المستمرة في حوالي العامين على غزة. صور الأطفال المتضورين جوعا والقتل اليومي أمام مراكز "مؤسسة غزة الإنسانية" وبواسطة الصواريخ الثقيلة التي تستهدف ما تبقى من مستشفيات ومراكز للنازحين، بذريعة الحفاظ على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد عملية "حماس" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. لا تبدو المصالح الاقتصادية ماثلة بقوة هنا، بل يجري الركون إلى الاعتبارات الانتخابية والانحيازات العرقية والعنصرية واستعادة مقولات التفوق والحضارة مقابل الهمجية، وصولا إلى جملة من المرويات الدينية الأقرب إلى الهلوسات. 

font change