قبل ثلث قرن، وبينما كانت حرب الخليج الثانية تُغير التوازنات الإقليمية جذريا، وتفتح مجال الصعود السياسي واسعا أمام أكراد العراق، وتمنح "حزب العمال الكردستاني" المناهض لتركيا مناطق سيطرة جبلية واسعة وعصية، في كامل القوس الحدودي بين البلدين، ليُعيد منها ترتيب حربه ضد تركيا، كان الرئيس التركي تورغوت أوزال يطرح آليات لحل المسألة الكُردية في البلاد، عبر مزيج من الاعتراف والحقوق الثقافية والإدارات المحلية. لكنه طوال ثلاث سنوات قاسية تلت الحرب، بقي يواجه برفض من الجيش والأجهزة الأمنية والقضاء وأغلبية الأحزاب السياسية، وكان يرد عليهم دوما بعبارة مبسطة، معناها "إن لم تحل تركيا المسألة الكردية، فإن المسألة الكردية ستحل تركيا".
دفع أوزال حياته السياسية والشخصية جراء طروحاته تلك، حسبما تُشير وتؤكد أبرز الأدلة، وعلى رأسها موته المفاجئ. إذ دخلت تركيا من بعده اضطرابا سياسيا دام لعقد كامل من الزمن، بسبب الاستقطاب الحاد بين المتطرفين القوميين بقيادة الثنائي سليمان ديمريل وتانسو تشيلر، والتيار الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان. بعد تحلل حزب أوزال "الوطن الأم"، الذي كان يشكل يمين الوسط، وقلب الاعتدال في المناخ السياسي التركي. انكمش الاقتصاد التركي طوال ذلك العقد، بعد هبة التنمية الانفجارية في زمن أوزال، وحدث انقلاب عسكري مضبوط عام 1997، كاد أن يؤدي إلى حرب أهلية، لولا الضغوط الأميركية على أربكان، وغدت المناطق ذات الأغلبية الكردية مسرحا لمذبحة عسكرية وبيئية مفتوحة. لكن ومع كل ذلك، بقيت المسألة الكردية مندلعة ومصدرا لكل فعل عام في البلاد.
راهنا، واستجابة لضغوط ولآليات مشابهة لتلك التي انبلجت مبادرة أوزال بسببها وقتئذ "خشية أن تحل المسألة الكردية تركيا"، ثمة محاولة تاريخية لتفكيك الملف الكردي. لكن ولسخرية عالم السياسة في الشرق الأوسط، فإن التيار الذي كان يعترض ويناهض مبادرة أوزال في المحاولة الأولى، وغالبا قاد عملية تصفيته عبر أدوات "الدولة العميقة"، أي حزب "الحركة القومية" المتطرفة، هو صاحب المبادرة الحالية، بينما تقف تيارات يمين الوسط، التي كان يمثلها أوزال، على الضد من المبادرة الحالية، ولو نسبيا وبشكل غير معلن حتى الآن، ولأسباب تتطابق مع سوء التقدير الذي كانت تعيشه التيارات القومية في زمن أوزال.
لن يتهاون حزب "العدالة والتنمية" عن الإطاحة بكامل المشروع، والعودة إلى التحالف مع القوميين الأكثر تطرفا، تجهيزا لتنفيذ انقلاب سياسي في البلاد، بدعوى الخطر المتأتي من المسألة الكردية
وبينما تعرض الحركة القومية التركية المبادرة الحالية من موقع "مسؤولية الأمن القومي"، فإن حزب "العدالة والتنمية" بزعامة الرئيس أردوغان يستخدم الملف بشكل وظيفي، يوافق عليها، لكن يضع رزمة من الشروط والأدوات التي ستخدم مشروعه السلطوي الأوسع، كفروض على أي قبول له بالمشروع. فـ"العدالة والتنمية" والرئيس أردوغان، الذي لا يتوقف عن تصنيف نفسه كامتداد سياسي وتحديثي لما شيده أوزال قبل نصف قرن من نهج سياسي محافظ ومُعتدل، يريد أن تكون هذه العملية أداة لتغيير الدستور الحالي في البلاد، بطريقة تفتح الباب أمام إمكانية ترشيح أردوغان لنفسه في انتخابات عام 2028، وتاليا تأبيد حكمه فعليا، ومعها السماح له بمعاقبة حزب "الشعب الجمهوري"، أو تحطيمه نهائيا، فهو التيار الأيديولوجي الذي يملك أردوغان، وكل الإسلاميون الأتراك، ثأرا تاريخيا معه.
في غير ذلك، لن يتهاون حزب "العدالة والتنمية" عن الإطاحة بكامل المشروع، والعودة إلى التحالف مع القوميين الأكثر تطرفا، ومع أحزاب مثل "الحزب الخيّر" و"النصر" و"الوطن الكبير"، تجهيزا لتنفيذ انقلاب سياسي في البلاد، بدعوى الخطر المتأتي من المسألة الكردية، لكن رغبة في الحصول على الأغلبية الشعبية عبر الاستفتاء العام على الدستور، ضمن مناخ التخوين والتحذير الذي سيخلقه، غير مبالٍ بما قد يجره ذلك من "ويلات" على البلاد.
لا تختلف نظرة وآلية الاستخدام الوظيفي التي ينتهجها حزب "الشعب الجمهوري" عما لدى "العدالة والتنمية" كثيرا. بعيدا عن مدى ضرورة حل المسألة الكردية في البلاد، كشرط سياسي وقيمي مطلق لتحديث البلاد ودمقرطتها، وهو الحزب الذي يصنف نفسه كوريث للأتاتوركية التحديثية، فإن حزب "الشعب الجمهوري" وقادته الشعبويين مأخوذون بشيء آخر تماما، هو الإطاحة بالرئيس أردوغان والعودة إلى الحُكم، بأي ثمن كان، ولو بتدمير البلاد عبر مواجهة جديدة مع "العمال الكردستاني".
الجيش التركي، ومثله القضاء والنقابات واتحادات رجال الأعمال ومجالس الجامعات وأجهزة الإعلام، صارت مؤسسات مفرغة من مضامينها، تابعة لتيار سياسي أو آخر، مثل أية دولة تقليدية أخرى
فبعد شهور من طرح هذه المبادرة، ومع تشكيل اللجنة البرلمانية الخاصة بالإشراف على كل تفاصيلها، لا يطرح حزب "الشعب الجمهوري" أية رؤية لما يجب أن تكون عليه مستقبلا، لا بشأن حقوق الأكراد السياسية والثقافية، ولا على ما يجب أن تفعله مؤسسات ومواثيق الدولة التركية في سبيل ذلك. عوضا عنه، تغرق نُخبه ووسائل إعلامه بطيف من الكيدية السياسية، التي تتهم التحالف الحاكم بـ"بيع البلاد"، والتحذير من مخاطر تفكك الكيان التركي، لكن دون أن يُخبر الحزب المعارض أحدا عن السبب والجهة التي يُمكن لها أن تفعل ذلك، فيما لو بقيت أكبر أحزاب البلاد وأكثرها تاريخية، في هذا المستوى من السلبية، لأهم قضية في البلاد.
بين التيارين، لا يبدو للمؤسسات التقليدية التي كانت تضبط التوجه الاستراتيجي للدولة التركية أي دور. فالجيش التركي، ومثله القضاء والنقابات واتحادات رجال الأعمال ومجالس الجامعات وأجهزة الإعلام، صارت مؤسسات مفرغة من مضامينها، تابعة لتيار سياسي أو آخر، مثل أية دولة تقليدية أخرى.
في ظل كل ذلك، يبدو زعيم "الحركة القومية التركية" دولت بهجلي الأكثر يقظة لعبارة أوزال التقليدية "إما أن تحل تركيا المسألة الكردية، أو تحل المسألة الكردية تركيا"، ربما لأنه الأكثر معرفة بما تخبئه الأيام القادمة من مفاجآت سياسية. إذ ليس في البلاد من يعتبر الأمر "مهمة وطنية"، ولمصلحة الجميع، ليكون الكيان أكثر ديمقراطية وعدالة وقريبا من وجدان كل مواطنيها.. ليس من أوزال في حاضر تركيا.