إيران... حقيقة الإصلاح وشكله

إيران... حقيقة الإصلاح وشكله

استمع إلى المقال دقيقة

لقارئ الصحافة الرسمية الإيرانية أن يعتقد أنه قاب قوسين من بلدٍ ونظام سياسي يعيش وتائر إصلاح متسارعة وأنماط تحديث جذرية. إذ يقرأ أخبارا مثل تصريح الرئيس مسعود بيزشكيان حول عدم إيمانه بفرض الحجاب واستحالة تطبيقه بالقوة، أو إقدام البرلمان على إصدار تشريع يمحو عددا من الأصفار عن العملة الوطنية، أو اقتراح بعض الساسة والبرلمانيين نقل العاصمة من مدينة طهران إلى مدينة أخرى بسبب شحّ المياه الصالحة للشرب.

يحدث ذلك في بلد تلقى قبل أسابيع قليلة ضربات عسكرية قاصمة، فيما تناثرت مناطق هيمنته وحلفائه الإقليميين يميناً وشمالاً، ويرزح منذ سنوات تحت وطأة عقوبات دولية مُدمرة لاقتصاده ومجاله الوطني. ويرعى سلسلة من التنظيمات المسلحة البائسة في مناطق مختلفة من العالم، تكلف الميزانية العامة المليارات، وعلى حساب كل أشكال حياة المواطنين وحقهم في نيل جودة معقولة.

في الوقت ذاته، لا يستطيع النظام السياسي تقديم أية محاجة لمواطنيه عن الأسباب الموضوعية لحدوث كل هذا بحقهم. فلماذا أساسا يتدخل النظام السياسي في المظهر والهيئة العامة للمواطنين ويفرض عليهم نوعا من الزي العام؟ وأي تضخم متراكم أصاب اقتصاد البلاد حتى صارت عملته متخمة بالأصفار؟ وأية هوادة شهدتها بلاد لم تعد حكوماتها قادرة على تقديم مياه الشرب لسكان العاصمة، فصارت تفكر في تغيير العاصمة نفسها، كقفز على المشكلة لا كـحل موضوعي لها. ومثلها أسئلة أكثر إلحاحا: لماذا على البلاد أن تدفع كل هذه الأثمان جراء البرنامج النووي، الذي تدعي السلطة الحاكمة أنه مدني الهوية، وهي دولة شديدة الغنى بكل الأنواع الأخرى من الطاقة. وأية قيمة مضافة لعمليات الهيمنة الإقليمية القائمة على إثارة سلسلة من الصراعات الطائفية في الجوار. فما الذي حصله الإيرانيون كشعب ومجتمع جراء دعم نظامهم الحاكم لتنظيم مثل "حزب الله" طوال العقود الماضية، ومده بميزانيات طافحة بالأموال، ولا تبالي بمؤسسة تأسيسية للحياة العامة مثل التعليم، حيث تشغل المرتبة 61 على مستوى العالم من حيث جودته، متراجعة منذ عقود عن دولة مجاورة ونظيرة وأقل غنى بالموارد المالية مثل تركيا، التي تشغل المركز 48.

مجموع ذلك يقول إنه لا إصلاح إداريا وتنمويا وثقافيا وحياتيا حقيقيا في البلاد، بل مظاهر وإيحاءات بأن تحولات ما ستظهر على النظام الحاكم، تجنبا لمواجهة الشارع والمجتمع الإيراني. شيء شبيه بتجارب عالمية كثيرة، حاولت الأنظمة القمعية فيها ملاقاة النقمة العمومية ضدها، وانكشافها الأمني في مراحل ما بعد الهزائم العسكرية، بمحاولات بائسة من شكليات الفعل العام لإرضاء القواعد الاجتماعية الناقمة.

في المحصلة، ثمة محاولة تقليدية للقول إن المعضلة ليست في بنية السلطة التعريفية وأيديولوجيتها العامة وآلية تشكيلها للخيارات والاستراتيجيات السياسية وأساليب حكمها للمجتمع الإيراني وإدارتها للموارد والطاقات وأدوات التنمية، بل في محاولة تفكيك وتخفيف نتائجها. فالسلطة تحاول أن تُخفي حقيقة أن تراكم كل تلك الأزمات وأشكال الاختناق هي نتيجة ما أسست وتؤسس له سياسيا، وتريد السلطة أن توحي بأنها قادرة على تفكيك وإيجاد حلول للنتائج، لكن دون أي مسّ بالبنية المؤسِسة لها، أي هوية السلطة السياسية وآلية تشكلها وأساليب وآليات اتخاذها للخيارات الاستراتيجية.

التاريخ الإيراني نفسه زاخر بكمٍ هائل من تلك المحاولات، التي باءت لنفس الأسباب الموضوعية بالفشل. فعندما حاول الشاه القاجاري "فتح علي شاه" في أوائل القرن التاسع تجاوز الحجم الطبيعي لدولة إيران وقتئذ، منخرطاً بشكل جنوني في سلسلة من الحروب، مجرباً الهيمنة على مناطق خارج الحدود المُعترف بها لإيران، مسيطراً على مناطق مثل أرمينيا وجورجيا وداغستان وأذربيجان، فسقط في الحرب الروسية/الفارسية المدمرة طوال السنوات الأولى من حُكمه، التي أدت في النتيجة لتوقيع "اتفاقية جولستان 1813" "المُذلة" مع روسيا. في النتيجة، قبل الملك الإيراني التخلي عن أراضٍ واسعة من دولته، لبقائه في الحُكم كحاكم تقليدي مطلق. ولم يجب على سؤالي الهزيمة الأكثر إلحاحا: لماذا هُزم الجيش القاجاري/الفارسي قُبالة نظيره الروسي، وهو الذي كان تعداده يبلغ خمسة أضعاف الجيش الروسي. وما مصلحة الإيرانيين بالدخول في سلسلة الحروب تلك، التي انتهت كلها بالهزائم، وما خلفت إلا ابتعادا تراجيديا عن الحداثة التي كانت تجتاح العالم وقتئذ. وهي الأحداث التي رآها وصنفها المؤرخون كأدوات ومسارات لمطابقة الإمبراطورية القاجارية/الإيرانية لنظيرتها العثمانية، وتحولها إلى "رجل مريض" آخر في المنطقة.

حين حاول الإيرانيون فرض معايير وأدوات التحديث على الحكام، عبر سلسلة من الثورات المتتالية أوائل القرن العشرين، واجهتهم السلطة بقمع شديد، أثبتت عبره خواء وهشاشة ما تدعيه من إصلاح

خلال عقود لاحقة، حين حاول "الملوك الإصلاحيون" اللاحقون، أمثال ناصر الدين شاه 1848-1896، ومظفر الدين شاه 1896-1907، ومحمد علي شاه 1907-1909 إحداث أنوع من التحديث والإصلاحات السطحية، كالقيام بزيارات متتالية إلى الدول الأوربية أو إحداث مدارس تعليم خاصة بأبناء الطبقة العليا، وحتى تنفيذ برامج رائدة في مجالات الطباعة والنقل والصحة، فشلوا جميعا. لأنهم بقوا مُصرين على أن إيران الإمبراطورية يُمكن لها أن تتجاوز "الشرط السياسي للإصلاح"، أي أن تتمكن من التحديث دون تفكيك النظام القروسطي للحكم المُطلق، أي دولة قوية لكن دون برلمان ودستور وتمثيل ومؤسسات للمراقبة والمساءلة، وربما المحاسبة. 
فحين حاول الإيرانيون فرض تلك المعايير والأدوات على الحكام، عبر سلسلة من الثورات المتتالية أوائل القرن العشرين، واجهتهم السلطة بقمع شديد، أثبتت عبره خواء وهشاشة ما تدعيه من إصلاح وتحديث لم يكن إلا رداً صورياً على سلسلة من الهزائم العسكرية، وتعبيراً عن فداحة محاولة كيان محدود القدرات والتجربة تجاوز حدود ما هو ممكن ومتاح له كقوة هيمنة تتجاوز إطارها الوطني. ولو حدث ذلك دون إصلاحات جذرية في بنية النظام نفسه، فإنها تفتح الباب أمام أوسع أشكال الاهتراء الوطني، التي تنتهي عادة بالانهيار الكياني، مثلما حدث مع إيران بعد سنوات قليلة، وتحولت من إمبراطورية تاريخية إلى دولة مُحتلة من بريطانيا والاتحاد السوفياتي.  

font change