تركيا... محاولة جديدة لتفكيك "حزب أتاتورك"

أ.ف.ب
أ.ف.ب
متظاهر ملتحف بالعلم التركي يجلس أمام عناصر شرطة مكافحة الشغب التركية الذين يغلقون مدخل مقر حزب الشعب الجمهوري (CHP)، خلال مظاهرة في إسطنبول، في 8 سبتمبر 2025

تركيا... محاولة جديدة لتفكيك "حزب أتاتورك"

خلال الأسابيع القليلة المقبلة، ستشهد تركيا مجدداً "معركة" سياسية كبرى ذات وجه قضائي، قد تؤثر على الاستقراره الداخلي. فحزب الشعب الجمهوري (حزب مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك ومُتبني عقيدته السياسية)، مُهدد بالحل والتفكيك عبر قرار قضائي مبرم سيصدر أواسط شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري، تمييزاً لحكم أولي صدر قبل شهرين، ألغت فيه المحكمة الإدارية نتائج المؤتمر العام الذي عقده الحزب قبل عامين.

صدور الحكم سيفتح المجال أمام الرئيس أردوغان وحزب "العدالة والتنمية" ليُعينوا أوصياء مقربين منهم على أكبر أحزاب المعارضة، ما يعتبره الأخير بمثابة "انقلاب سياسي على اللعبة الديمقراطية"، تستخدم السلطة فيه المؤسسات القضائية بشكل وظيفي فحسب.

الإجراء القضائي يأتي عقب سلسلة من الإجراءات والقرارات التي أصدرتها مؤسسات الدولة المقربة من الحزب الحاكم خلال الشهور الماضية، ابتغت في مجملها تقويض حزب "الشعب الجمهوري". مثل إقالة رؤساء عشرات البلديات التي فاز بها حزب "الشعب الجمهوري"، ووضع مندوبين مقربين من السلطة على رأس تلك البلديات، أو إحالة عدد من قادة الحزب إلى المحاكم بتهم الفساد، ومحاولة الاستيلاء على مؤسسات إعلامية ومدنية خاصة معروفة بقربها من الحزب، وشن حملة دعائية مناهضة له، وإجبار الأحزاب الصغيرة على الاختيار بين السلطة أو حزب "الشعب الجمهوري".

التموضع الراهن

حزب "الشعب الجمهوري" يعتبر نفسه "أميناً" على الهوية العلمانية والديمقراطية والقومية للدولة التركية الحديثة، وهو التنظيم السياسي الوحيد الذي لم يخرج من المشهد العام للبلاد منذ أكثر من قرن، وكان يُعرف تاريخياً بمناهضته للإسلام السياسي والتيارات المحافظة في تركيا. وراهناً هو أكبر أحزاب المعارضة، وتشير استطلاعات الرأي إلى تجاوز شعبيته ونسبة مؤيديه حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، فيما يُسيطر على الأنظمة البلدية في كل المُدن الكبرى في البلاد، ويطرح استراتيجية سياسية ورؤية تنموية واقتصادية أوضح مما لدى التحالف الحاكم، وتدل أغلب التوقعات على قدرة مرشحه المُعتقل أكرم إمام أوغلو على هزيمة الرئيس أردوغان في أية انتخابات رئاسية قادمة.

"العدالة والتنمية" قبِل وتمكن من التعايش مع الحزب الأتاتوركي المعارض لأكثر من عقدين كاملين، لأنه كان متأكداً من أن شعبية حزب "الشعب" لن تزيد في أفضل الأحوال عن ثلث الناخبين الأتراك

المؤتمر الأخير للحزب حمل عناوين ذات دلالة "لا للاستيلاء القضائي"، "لا للانقلاب والوصاية"، كما أعاد انتخاب التيار الحزبي الأكثر تصعيداً في مواجهة السلطة الحاكمة، بقيادة الزعيم الشاب أوزغور أوزيل وحليفه رئيس بلدية إسطنبول المُعتقل أكرم إمام أوغلو. ما دفع المراقبين إلى الاعتقاد بأن المواجهة بين الطرفين ستكون "صفرية"، فإما سيواصل الحزب الحاكم استراتيجيته الساعية لتفكيك حزب "الشعب الجمهوري"، وتاليا إمكانية حدوث مواجهات عارمة في الشارع، مثلما حدث قبل عدة أيام حين حاولت قوات الشرطة والأمن الدخول والسيطرة على المبنى الرئيس للحزب في مدينة إسطنبول، وهو ما قد يتحول إلى صراع سياسي وشعبي بين أنصار التيارين في كافة أنحاء البلاد. أو أن يتمكن حزب "الشعب الجمهوري" من تحدي الأدوات القضائية والأمنية التي للسلطة، وتالياً يؤسس لمواجهة سياسية حاسمة عبر الانتخابات المقبلة.

أسباب المواجهة الحتمية

توجهت "المجلة" إلى الباحث المختص في الشؤون الداخلية التركية فيصل دنيز، وسألته عن الحوافز والمحركات التي تدفع السلطة لأن تتخذ هذه "الاستراتيجية التفكيكية" راهناً، متسائلة عن تأثيرات ذلك على الاستقرار والسلام الاجتماعي الداخلي، وعملية النمو الاقتصادي القلقة للغاية في البلاد.

رويترز
صورة لمؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك معلقة خارج مقر حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي، في أنقرة، تركيا، 15 سبتمبر 2025

يعتقد دنيز أن مصدر أفعال السلطة الحاكمة متأت من إحساسها بأن العكس يعني فقدان السلطة خلال شهور قليلة. فـ"العدالة والتنمية" قبِل وتمكن من التعايش مع الحزب الأتاتوركي المعارض لأكثر من عقدين كاملين، لأنه كان متأكداً من أن شعبية حزب "الشعب" لن تزيد في أفضل الأحوال عن ثلث الناخبين الأتراك، وتحالفه مع الحزب الثالث من حيث الحجم في البرلمان، أي الحزب المؤيد للأكراد، كان على الدوام أمراً شبه مستحيل، ومع الأمرين كانت قدرة الرئيس أردوغان على "تبديل القبعات" مستمرة، من تغيير للدستور إلى تبديل لنوعية نظام الحُكم، وأشياء مثلها، ليبقى في الحُكم أطول مُدة ممكنة، وهو ما نجح فيه إلى حد بعيد.

حزب "الشعب الجمهوري" تتجاوز شعبيته 40 في المئة من مجموع الناخبين راهناً، ويتقدم على حزب "العدالة والتنمية" بعدة نقاط ثابتة في استطلاعات الرأي منذ سنتين

يضيف دنيز في حديثه مع "المجلة" قائلاً: "يعرف حزب (العدالة والتنمية) أن السعي للقضاء المبرم على حزب (الشعب الجمهوري) مجازفة كبرى، لأنه التيار الأقوى ضمن طبقات المجتمع التركي الأكثر تمدناً والأفضل تعليماً ودوراً في الحياة الثقافية والتعليمية والاقتصادية في البلاد، وهو تيار سياسي مُعتدّ بصلته الأيديولوجية مع مؤسس الدولة الحديثة، وإخراجه من المشهد السياسي بعد قرن كامل من الحضور المستدام يُعد مساً باستقرار البلاد. لكن مع كل ذلك لا حل آخر أمامه، لو أراد البقاء في السلطة بأي ثمن. فحزب (الشعب الجمهوري) تتجاوز شعبيته 40 في المئة من مجموع الناخبين راهناً، ويتقدم على حزب (العدالة والتنمية) بعدة نقاط ثابتة في استطلاعات الرأي منذ سنتين، ويستطيع بتحالف بسيط مع القوميين أو حتى مع الحزب المؤيد للأكراد تشكيل أغلبية برلمانية. كذلك فإن قيادته الشابة الجديدة، مثل رؤساء بلديات أنقرة وإسطنبول وأزمير، ومثلهم الزعيم الشاب نسبياً أوزغور أوزيل، يشكلون قيمة تحفيزية مقارنة بقيادة حزب (العدالة والتنمية) والرئيس أردوغان. لكن الهدف الذي لا يستطيع حزب (العدالة والتنمية) التراجع عنه هو تغيير الدستور. فالرئيس أردوغان لا يستطيع الترشح في أية انتخابات مقبلة دون تغيير الدستور وتبديل كامل النظام السياسي، وهذا التغيير يتطلب (تحطيماً ما) لحزب (الشعب الجمهوري)، كما فعل الرئيس أردوغان مع حركة غولن والحزب المؤيد للأكراد حينما أراد التحول من رئيس للوزراء إلى رئيس للجمهورية".

أ.ف.ب
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يلوح بيديه أثناء إلقائه خطابا خلال حزب العدالة والتنمية، كجزء من المؤتمر العام الثامن العادي في أنقرة أرينا في أنقرة، في 23 فبراير 2025

يربط الباحث دنيز هذه التغيرات الجذرية في علاقة التوازن بين الحزبين الرئيسين في البلاد بالتحديث الذي نفذته القيادة الجديدة للحزب خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بعد خروج كمال كليشدار أوغلو من قيادة الحزب، ويصنفها على أربعة مستويات: "الفاعل الرئيس كان يتمثل بأداء رؤساء بلديات المدن الكبرى. فمنذ أن أحدث (الشعب الجمهوري) زلزالاً سياسياً في عام 2019 حين استحوذ على بلديات كل المدن الرئيسة، أثبت رؤساء هذه البلديات طاقة جبارة من النشاط والمسؤولية والقدرة على التخطيط والبعد عن دوائر الفساد والمحسوبيات، وهي تُهم كانت تلاحق رؤساء البلديات المنحدرين من حزب (العدالة والتنمية)، وكادت أن تطيح بهم، لولا حماية السلطة لهم.. وقد شكل هؤلاء الصورة الجديدة لحزب (الشعب الجمهوري)، الذي حرصت دعاية حزب (العدالة والتنمية) على تأطيره كحزب علماني وطائفي مناهض للطبقات المحافظة. وهي صورة غيرها الزعيم الجديد أوزغور أوزيل، من خلال تشديده على البُعد الطبقي والاقتصادي في برنامج الحزب، وربطه بالقدرة على خلق مؤسسات حكم غير عائلية وغير حزبية، ما أخرج الحزب من النقاش الأيديولوجي المستدام مع (العدالة والتنمية). في ذات السياق، فإن شخصيات مثل منصور يافاش، رئيس بلدية العاصمة أنقرة، حرص على جذب الأصوات القومية، فيما حرص رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو على جذب الأوساط اليسارية والكردية، فيما يبدو وكأنه تقاسم للأدوار داخل الحزب".

حسب ما هو متوقع، فإن المحكمة ستصدر حكمها التمييزي النهائي بشأن القضية المرفوعة ضد حزب "الشعب الجمهوري" في 24 أكتوبر

يرى دنيز أن محاولة تفكيك حزب "الشعب الجمهوري" لن تمر دون تحديات أمنية خطيرة للغاية، ولأجل ذلك، فإن الخيار الأول للرئيس أردوغان هو محاولة إحداث شرخ داخلي، عبر إثارة المزيد من الخلافات بين القيادة التقليدية والراهنة في الحزب، مستخدماً سلاحي القضاء وتوجيه تهم الفساد و"الخيانة الوطنية" للتيار الجديد ضمن الحزب، أي فعل شيء شبيه بما مارسه مع الحركة القومية التركية، وليس بما مارسه بحق حركة فتح الله غولن.

أجواء قلقة  

حسب ما هو متوقع، فإن المحكمة ستصدر حكمها التمييزي النهائي بشأن القضية المرفوعة ضد حزب "الشعب الجمهوري" في 24 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، بعد حكم أولي ألغى نتائج المؤتمر العام الذي عقده الحزب في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وتاليا وضع وصاية قضائية/حكومية على الحزب، قد تمتد لأعوام، وتفكك المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية الهائلة التي راكمها الحزب طوال قرن كامل، كان خلال عقود كثيرة منه الحزب الحاكم، مستفيداً من وجوده في بُنى الدولة.

رويترز
تمثال مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة والعلمانية، بجوار الأعلام التركية في مدينة إزمير الساحلية، تركيا في 25 مايو 2007

المراقبون أشاروا إلى قدرة الأدوات المقربة من السُلطة على التسرب إلى داخل تنظيمات الحزب المعارض، فالحكم القضائي صدر بناء على شكوى تقدم بها أعضاء من داخل الحزب، الأمر نفسه انطبق على مجموعة من الشكاوى بخصوص مؤتمرات فروع الحزب في المحافظات. إذ يبدو الخلاف الداخلي في الحزب واضحاً، خصوصاً بعد امتناع الزعيم الأسبق للحزب كمال كليشدار أوغلو عن حضور المؤتمر الأخير قبل عدة أيام، رغم دعوته من قِبل المنظمين. إذ بدأت الخلافات الداخلية مع رفض كليشدار أوغلو التنحي لصالح أكرم إمام أوغلو في الانتخابات الرئاسية عام 2022، فحمله الحزب أسباب الهزيمة، وتكرس الأمر عبر إسقاط زعامته الحزبية في مؤتمر عام 2023، عبر الثلاثي الشاب، الزعيم الجديد أوزغور أوزيل ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو ورئيس بلدية أنقرة منصور يافاش.

قيادات حزب "الشعب" صارت تعلن علانية فقدانها للأمل في المؤسسات الوطنية، متهمة إياها بالتبعية التامة للرئيس أردوغان والحزب الحاكم، وترفع نداءاتها للمؤسسات الدولية

يرى المراقبون أن قضية حل حزب "الشعب الجمهوري" عبر القضاء، أو تفكيكه سياسياً بشكل موضوعي عبر الاعتقالات ودعم أجنحة حزبية ضد أخرى قد تثير تدخلاً دولياً، من قِبل دول ذات نفوذ ومصالح متداخلة مع تركيا، لما لذلك من تأثيرات على الإقليم الواسع المحيط بتركيا. عدة تقارير دولية أشارت خلال الأسابيع الماضية إلى خطورة حدوث ذلك، مُلاحظة مسار التحول السياسي الداخلي في البلاد. فتركيا التي كانت عام 2010 تُصنف ضمن البلدان الناهضة سياسياً، إلى جانب دول جنوب شرق أوربا وأميركا الجنوبية، محققة نتائج مبهرة في مؤشرات مثل "الحريات الديمقراطية"، باتت المؤشرات نفسها تُصنفها راهنا كنظام قائم على "ديمقراطية شكلية". وهو ما ستكون له تداعيات على الاقتصاد والاستقرار الداخلي، فتركيا في المحصلة ليست دولة ذات موارد متدفقة مستدامة، واقتصادها يعتمد على الاستقرار السياسي.

المؤسسات الإعلامية والأجهزة الدعائية التابعة والمقربة من حزب "العدالة والتنمية" صارت تتهم قيادات حزب "الشعب الجمهوري" بالتحضير لمواجهات شعبية في الشارع، موحية بملاقاة ذلك لمخططات خارجية تُجهز لتركيا، في تطابق تفصيلي مع ما تم التجهيز لها قبل أسابيع من تفكيك السلطة لحركة فتح الله غولن.

رويترز
ضباط شرطة يمنعون أنصار حزب الشعب الجمهوري المعارض من الوصول إلى المكتب الإقليمي في إسطنبول، بعد حكم قضائي أطاح بقيادة الحزب الإقليمية في إسطنبول، تركيا، 7 سبتمبر

قيادات حزب "الشعب" صارت تعلن علانية فقدانها للأمل في المؤسسات الوطنية، متهمة إياها بالتبعية التامة للرئيس أردوغان والحزب الحاكم، وترفع نداءاتها للمؤسسات الدولية، كما كتب رئيس بلدية إسطنبول المُعتقل أكرم إمام أوغلو في صحيفة "الغارديان" البريطانية: "هذا العام، دخلت الديمقراطية في تركيا مرحلتها الأكثر خطورة. بدأت العملية عندما رُشحتُ للرئاسة من قبل حزب (الشعب الجمهوري) العريق. في البداية، سُحبت شهادتي الجامعية فجأة. ما أهمية هذا؟ لأنه، وفقاً للدستور التركي، يشترط الحصول على شهادة جامعية للترشح للرئاسة. بعد ذلك بوقت قصير، اتُهمتُ بالفساد ودعم الإرهاب. سُجنتُ لستة أشهر بناء على هذه التهم ذات الدوافع السياسية، استناداً إلى شهادات شهود مجهولين. في بلدٍ مُلتزم بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، يُعد هذا الوضع فضيحة مُطلقة. لستُ وحدي من يمرّ بهذا. أكثر من اثني عشر رئيس بلدية منتخب من أحزاب المعارضة يقبعون في السجون في أنحاء تركيا. وهذا العدد يتزايد يومياً. وقد أُقيل رؤساء بلديات منتخبون من مناصبهم في ربع مقاطعات إسطنبول، متجاهلين إرادة ملايين الناخبين. دعوني أوضح ما يحدث في البلاد. بدافع غطرسة السلطة المطلقة، يستخدم الرئيس رجب طيب أردوغان القضاء مجدداً كسلاح ضد المعارضة الديمقراطية. هذه المرة، يسجن معارضيه ويستبدلهم بمؤيدين مخلصين".

font change