بسبب المسألة الكردية... شقاق في جبهة "القوميين الأتراك"

ليسوا جبهة واحدة، لا تنظيميا ضمن طيف الأحزاب والتحالفات، ولا حتى في الرأي العام

غيتي
غيتي
سلاح المجموعة الأولى من "حزب العمال الكردستاني"، الذي سُلم وأحرق في السليمانية، شمال العراق، في 11 يوليو

بسبب المسألة الكردية... شقاق في جبهة "القوميين الأتراك"

فيما تستمر عملية "السلام" بين الحكومة التركية و"حزب العمال الكردستاني" نحو مزيد من الخطوات العملية والمتبادلة، يلاحظ خبراء ومراقبو الشأن السياسي الداخلي التركي "انقلابا" في شكل التحالفات الحزبية الداخلية في البلاد، مبنيا على تغيرات جذرية تحدث في البيئة السياسية للتيارات القومية التركية في البلاد. إذ صار الرئيس رجب طيب أردوغان "مُهددا" بخسارة المزيد من مؤيديه من القوميين الأتراك، ومن مختلف التنظيمات والأحزاب، اعتراضا على اعترافه وتعاطيه مع "العمال الكردستاني" كطرف سياسي، ورفضا لما قد يتخذه من قرارات وتشريعات عبر اللجنة البرلمانية المنوي تشكيلها لهذا الغرض. الأمر نفسه يصح بحليفه في التحالف الحاكم دولت بهجلي، زعيم الحركة القومية التركية "المتشددة".

لكن القوميين الأتراك في هذا الملف ليسوا جبهة واحدة، لا تنظيميا ضمن طيف الأحزاب والتحالفات السياسية، ولا حتى في الرأي العام حسبما تكشف الاستطلاعات. وهذه حالة نادرة في تركيا، إذ نادرا ما كانت القوى القومية متباينة ومتواجهة فيما بينها لهذا الحد، أكثر من صراعها مع باقي القوى السياسية في البلاد.

طيف القوميين

تتوزع الأحزاب والتيارات القومية التركية حاليا على أربع قوى رئيسة، يشكل "حزب الحركة القومية" (MHP) التنظيم التقليدي والأقوى ضمنها. فللحزب راهنا 47 مقعدا برلمانيا من أصل 600 مقعد. ينضوي الحزب ضمن "تحالف الجمهور" الحاكم مع "حزب العدالة والتنمية"، وهو أكثر التنظيمات حيوية ودفعا للتفاوض مع "العمال الكردستاني". تعترف الحركة القومية بأنها مارست قطيعة استثنائية مع تاريخها ورؤيتها وحتى تعريفها لهوية الكيان التركي. فالزعيم المخضرم للحركة دولت بهجلي صار يعرض نفسه كـ"زعيم ديمقراطي" للبلاد، وليس قائد الجبهة القومية في البلاد كما كان تقليديا. لكن الحركة لا تصنف ذلك كتخلٍ عن النهج القومي، بل كتحديث وتأكيد على المصلحة القومية بعيدة المدى.

تتوزع الأحزاب والتيارات القومية التركية حاليا على أربع قوى رئيسة، يشكل "حزب الحركة القومية" التنظيم التقليدي والأقوى ضمنها

بالتقادم، طور بهجلي من آلية تفكيره بالمسألة الكردية في البلاد، إذ سرب عنه الصحافي الشهير إسماعيل سايماز قوله في اجتماع مغلق لقادة حزبه قائلا: "لا يمكن إقصاء الأكراد والعلويين من الجهاز الإداري للدولة، ليكن للرئيس نائبان، أحدهما كردي والآخر علوي". صُدمت الأوساط القومية بسبب ذلك، نافية أن يكون بهجلي قد قال ذلك، ما دفعه لإصدار بيان رسمي يؤكد فيه ما أتى عليه الصحافي سايماز. فالخطاب العام للحركة القومية يعتبر أن تحديات كبرى تواجه الدولة التركية، وأنها على اطلاع مباشر ومعرفة بها، وهي تتخذ خطواتها وتوجهاتها السياسية الحديثة استباقا لإمكانية وصول الأمور إلى حد غير حميد، منوهة بضرورة اتخاذ كل الإجراءات الحمائية سلفا.

أ.ف.ب
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتحدث خلال الدورة الحادية والخمسين لمجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، 21 يونيو

يناقض "الحزب الجيد" (IYI Party) توجهات "الحركة القومية" تماما، وهو التيار القومي الثاني في البلاد من حيث التمثيل، حاضر في البرلمان بكتلة مؤلفة من 29 برلمانيا، بعدما أنشق عن الحركة القومية نفسها منذ سنوات. يشكك "الحزب الجيد" بجدوى العملية الحالية بين "الكردستاني" والدولة التركية، ويضع كتلة من الشروط المعقدة للانخراط فيها، هي فعليا المحددات المثالية لإفشال هذه العملية. يضخ الحزب خطابا تقريعيا شبه يومي في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وصل الأمر بزعيم الحزب موسفاط درويش أوغلو لأن يصف ما يحدث بكونه "خيانة بعد صراع أسفر عن مقتل أكثر من 40 ألف شخص... لن نسمح بتدمير الجمهورية، ولن نسمح بتقسيم الوطن التركي، ولن نستسلم للخيانة".

تختلف رؤية "الحركة القومية" عن التيارات القومية الثلاثة الأخيرة بكونه يُصرح بخطورة ما يحيط بتركيا من تحولات، مؤكدا على ضرورة التفاعل الإيجابي معها، وإلا ستواجه تركيا وقائع عصيبة

لا تقل باقي التيارات القومية التركية الصاعدة من خارج البرلمان تشددا في مواقفها عما يقوله "الحزب الجيد". إذ يقود زعيم "حزب النصر" المعارض "أوميت أوزداغ" حملات "تحريض ورفض" يومية في كل أنحاء البلاد، يثير فيها المشاعر القومية ويهاجم القائمين على هذا المشروع، الذين يصفهم بـ"ضيوف حفلة الشواء"، في كناية مشككة بإقدام مقاتلي "الكردستاني" على التخلي عن السلاح وحرق بنادقهم. مواقف أوزداغ وصلت درجة اتهام أردوغان وبهجلي بأقذع الألفاظ، ما تسبب بحبسه لعدة أيام. ويفعل مثله أيضا "حزب الوطن الكبير" (Vatan Partisi) بقيادة دوغو برينجيك، الذي يروج ادعاءات تقول إن ما يجري هو "مؤامرة دولية كبرى" تسعى لتقسيم تركيا. الحزبان اللذان ما زالا خارج البرلمان، لكن استطلاعات الرأي تشير إلى تصاعد شعبيتهما، من واحد في المئة قبل بدء هذه العملية، إلى قرابة خمسة في المئة راهنا، أي ما يقارب شعبية "الحزب الجيد" و"الحركة القومية" نفسها، ويُتوقع لهما مزيدا من الشعبية في الأسابيع والشهور المنتظرة، مع اتخاذ اللجنة البرلمانية خطوات تشريعية لصالح الأكراد في البلاد.

تختلف رؤية "الحركة القومية" عن هذه التيارات القومية الثلاثة الأخيرة بكونه يُصرح بخطورة ما يحيط بتركيا من تحولات، مؤكدا على ضرورة التفاعل الإيجابي واليقظ معها، وإلا ستواجه تركيا وقائع عصيبة. تنشر الماكينة الإعلامية والترويجية للحركة هذا الخطاب على نطاق واسع، بمساندة من نظيراتها في "حزب العدالة والتنمية" وكامل الجهاز الحكومي. فيما تستند باقي التيارات القومية إلى خطاب تقليدي، يربط منح الكُرد أية حقوق تشريعية أو سياسية، أو حتى تعليمية واضحة، بإمكانية تقسيم تركيا مستقبلا.

صراع على الأصوات القومية

يراقب "حزب الشعب الجمهوري" (CHP) كل ذلك، ويحاول الاستفادة منها بكل جهده. إذ لا يتوانى الحزب خلال الفترة الأخيرة على تأكيد هويته كتيار قومي/علماني. فحزب المعارضة الرئيس هذا، وصاحب أكبر الحظوظ للوصول إلى سُدة الحُكم خلال أية انتخابات برلمانية مقبلة، يعرف جيدا أن أصوات القوميين الأتراك كانت سبب فوز الرئيس أردوغان و"حزب العدالة والتنمية" خلال الانتخابات الأخيرة عام 2023، وهو لن يتحفظ عن جذب القوميين بأية آلية كانت، ولو تطلب الأمر سعيا واضحا منه للإطاحة بكامل هذه العملية.

ولأنه تيار المعارضة الرئيس في البلاد (له 135 مقعدا برلمانيا)، ومحمل بمُعتقد سياسي وأيديولوجي يرى في نفسه "حامي الدولة"، حريص على الجمع بين الميول القومية مع النزعات التحديثية العلمانية، لا يعلن "حزب الشعب" رفضه للعملية الحالية حتى الآن، وذلك لصعوبة رفض إنهاء الصراع المسلح في البلاد. لكنه، أي "حزب الشعب الجمهوري" المعارض، يخشى أن تكون هذه العملية التفاوضية بين "الكردستاني" والحكومة التركية ذات قيمة سياسية مضافة شديدة للرئيس أردوغان و"حزب العدالة والتنمية" في القادم من الأيام، لأنه سيمنحه "وسام" إنهاء أعقد مشاكل البلاد على الإطلاق منذ قرن، وهو ما لم يتمكن غيره من القادة والحكام الأتراك من فعله. فـ"الشعب الجمهوري" متأكد راهنا من حتمية "هزيمة أردوغان" في أية انتخابات قادمة، حسب استطلاعات الرأي العام. لكن عملية التفاوض هذه قد تُغير موازين القوى تماما. كذلك يخشى "الشعب الجمهوري" من تحوير مرامي العملية، ليتم تغيير الدستور جذريا بـ"حجة" المصالحة الوطنية، وتاليا فتح المجال أمام إمكانية إعادة ترشيح الرئيس أردوغان لنفسه في انتخابات عام 2028، وهو ما لا يحق له راهنا.

حتى لا تمر التغييرات الدستورية بالاستفتاء الشعبي، وأن تُقر بالتصويت البرلماني فحسب، فإنها بحاجة إلى 400 صوت برلماني، أي 24 مقعدا إضافيا لتجمع التحالف الحاكم مع الحزب المؤيد للأكراد

يشرح الباحث التركي حسن أيسا دينيز في حديث مع "المجلة" تفاصيل المزاحمة بين "حزب الشعب الجمهوري" و"حزب العدالة والتنمية" على كتلة الأصوات القومية التركية، ويقسمها إلى مستويين من المواجهة المفتوحة، ويضيف: "القضية الأساسية بالنسبة لـ(العدالة والتنمية) راهنا هي جمع 360 صوتا انتخابا، ليتمكن من تقديم مقترحات بتغيير الدستور، وتحويله إلى الاستفتاء العام. هذا الرقم غير متوفر في (تحالف الجمهور) الذي يجمع (العدالة والتنمية) مع (الحركة القومية)- لديهما 319 مقعدا- لكن انضمام (حزب الشعوب والمساواة والديمقراطية) المؤيد لحقوق الأكراد إليهم (لديه 57 مقعدا برلمانيا)، سيسمح لتحالفهم البرلماني بأن يستحوذ على 376 مقعدا برلمانيا، وهو ما سيحقق التطلع الأولي للرئيس أردوغان و(حزب العدالة). لكن ذلك لو حدث، فسيعني أن التغيرات الدستورية المتوقعة، المتمركزة حول المسألة الكردية وشكل نظام الحُكم في البلاد، يجب أن تخضع للاستفتاء العام، وحينئذ، سيعمل (حزب الشعب الجمهوري) على تصعيد خطابه القومي لأقصى الدرجات، متناغما مع التيارات القومية المناهضة لـ(حزب الحركة القومية) المنخرط في العملية، لتحطيم عملية تغيير الدستور، وتاليا الإطاحة بحكم أردوغان المديد. وهو مسعى يملك حظوظا متفاوتة، فـ(الشعب الجمهوري) وحدة يستحوذ راهنا على 35 في المئة من مجموع الأصوات في البلاد، ويمكن له التطلع لنسبة الـ15 في المئة الباقية لإنجاح مشروعه من القوميين الناقمين".

أ.ف.ب
مؤيدون في ديار بكر يرفعون صورة زعيم "حزب العمال الكردستاني" المسجون عبد الله أوجلان بعد أن دعا الحزب إلى نزع سلاحه وحل نفسه، جنوب شرق تركيا في 27 فبراير

تجاوزا لذلك، حسبما يشرح الباحث دينيز، فإن أردوغان قد يلجأ إلى "الخطة ب" حسب رأيه، والتي يشرحها كالتالي: "حتى لا تمر التغييرات الدستورية بالاستفتاء الشعبي، وأن تُقر بالتصويت البرلماني فحسب، فإنها بحاجة إلى 400 صوت برلماني، أي 24 مقعدا إضافيا لتجمع التحالف الحاكم مع الحزب المؤيد للأكراد. هذه الأصوات يمكن جذبها من حزب (الطريق الجديد)، الذي يضم عددا من الأحزاب الناشئة، ذات الخلفية الإسلامية/القومية، ولها 22 مقعدا برلمانيا، ومثلها بعض الأحزاب صغيرة الحجم تماما، لكن اليسارية بعمومها، مثل (حزب العمال) و(حزب المستقبل). لكن السؤال الرئيس هنا يتعلق بمدى التزام أعضاء (حزب الحركة القومية) نفسه بقرار حزبهم أثناء التصويت على تغييرات دستورية تتضمن حقوقا سياسية وتعليمية واضحة للأكراد واعترافا بينا بشخصيتهم السياسية، وهو ما يعمل (حزب الشعب الجمهوري) على اجتراحه من خلال (الحزب الجيد)، الذي يستطيع جذب (رفاق الأمس) حسبما تقول أدبيات تيارهم، والادعاء بأن (الحزب الجيد) هو الممثل الحقيقي والشرعي للتوجهات القومية... الأمر الآخر يتعلق بنتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة في عام 2028، التي ستضم كتلتين مستقطبتين تماما، واحدة تضم الإسلاميين من مؤيدي الأكراد و(حزب الحركة القومية)، وفي الجهة المقابلة كل التنظيمات القومية التركية، وهو ما يخلق استقطابا قابلا للتفجر في أية لحظة، وغالبا ما سيؤدي لهزيمة أردوغان و(حزب العدالة والتنمية)".   

font change