عوّدَتنا الخطابات السياسية السائدة على رفض التطبيع والتسليم بأن هذا الأمر، أي التطبيع، هو منى إسرائيل، وأن هذه تحاول كل جهدها فرض هذا المسار على الدول العربية، من دون تفحّص أو تفكيك تلك الكلمة، ودون التبصّر بالوقائع التاريخية التي تدل على خلاف ذلك.
المشكلة أن كثيرين لا ينتبهون إلى أن اعتقادهم بقابلية إسرائيل للتطبيع مع العالم العربي يتناقض، أغلب الأحيان، مع فهمهم لإسرائيل بوصفها دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، وممانعتها التحول إلى دولة عادية، أو طبيعية، وعدم تحديد حدودها الجغرافية والسياسية والأمنية والبشرية، فهي ليست دولة لمواطنيها، ولا دولة لليهود فيها فقط، إذ تعتبر نفسها دولة يهود العالم، وأن القوة هي المعيار الواقعي لحدودها.
بالمثل، فإن اعتبار إسرائيل دولة عنصرية، وغيتو، أو قلعة، في المنطقة، يتناقض مع القول بقابليتها للتطبيع مع الآخر، لأن ذلك يعني تخليها عن حال الاستثناء التي تتمسك بها، والتي تعتبرها بمثابة قيمة مضافة لها، دونا عن دول العالم الطبيعية.
لنلاحظ أن إسرائيل تنأى بنفسها عن التطبيع حتى مع مواطنيها الفلسطينيين، وهي لذلك صكّت قانون-أساس باعتبارها دولة قومية لليهود، ما يخرج المواطنين، من غير اليهود، من إطار المواطنة، أو يجعلهم بمكانة دونية إزاء اليهود.
أيضا، في الآونة الأخيرة، ظهر أن ثمة صعوبة في التطبيع حتى بين اليهود في إسرائيل، بين متدينين وعلمانيين، وشرقيين وغربيين، ومتطرفين ومعتدلين، إلى درجة زيادة الكلام عن نوع من "حرب أهلية"، وذلك بحكم هيمنة تيار اليمين القومي والديني المتطرف، وهذا بات يظهر في كل شيء، في الموقف من عطلة يوم السبت، والتشريعات في الكنيست، ومحاولة مصادرة دور المحكمة العليا، وتقويض السلطة القضائية، وصولا حتى لرفض الخدمة في الجيش.
يمكن أن نضيف، إلى ما تقدم، حقيقة أن عصبية المجتمع الإسرائيلي، بكل أطيافه، وتناقضاته، وخلافاته، الكثيرة والمهمة، تتأسس على التوحد إزاء المخاطر الخارجية، أو إزاء "الأغيار"، وهو ما حصل، في كل التطورات التي شهدتها إسرائيل منذ إقامتها (1948).
لا حاجة للتدليل على رفض إسرائيل للتطبيع، بتقويضها الاتفاقات مع الفلسطينيين، منذ 1993
وقد حصل ذلك في ردة فعل الإسرائيليين على عملية "طوفان الأقصى" (أواخر 2023)، فبينما كان نتنياهو في أضعف حالاته قبلها، وكاد أن ينتهي زمنه السياسي، لمحاولته جمع كل السلطات بيديه، وتقويض السلطة القضائية، وتغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية على طابعها كدولة ديمقراطية، إذا به بعد تلك العملية يصبح بمثابة الزعيم المتوج لغالبية الإسرائيليين، مع انحسار شعبية كل خصومه في المعارضة، علما أن الخلاف بين نتنياهو والمتظاهرين يتعلق بالتكتيك، أي بمجرد صوغ هدنة تتيح تخليص الرهائن الإسرائيليين لدى "حماس"، وبعدها فليفعل ما يشاء.
وإذا انتقلنا إلى الوقائع التاريخية فهي تؤكد رفض أو ممانعة، إسرائيل للتطبيع، بالمفهوم السائد عربيا. مثلا، فإن إسرائيل، في ظل حكومة إسحق شامير الليكودية، رفضت الانخراط في مؤتمر مدريد للسلام (1991)، الذي عقد وفق مبدأ "الأرض مقابل السلام"، ثم رضخت لتلك العملية، بعد ضغوط أميركية كبيرة، لكنها لم تلتزم بأي شيء.
وكانت عملية مدريد التي بدأت بعد طي ملف الصراع العربي-الإسرائيلي، على الصعيد الدولتي، مع قرابة عقدين على حرب (1973)، أفضت إلى مسارين تفاوضيين: ثنائي، يتعلق بالأرض والحدود والأمن، وجماعي، متعدد الأطراف يتعلق بفتح مسارات التعاون الإقليمي، وفقا لمفهوم "الشرق الأوسط الجديد"، وقد نجمت عنه في حينه لجان تفاوضية دولية وإقليمية حول الأمن الإقليمي والتعاون في مجال المياه والبني التحتية والتنمية الاقتصادية والبيئة واللاجئين، كما تم عقد أربعة مؤتمرات قمة للتعاون الإقليمي، فِي الدَّار البيْضاء 1994، وَعَمان 1995، والقاهرة 1996، والدَّوْحة 1997. مع ذلك فقد أطاحت إسرائيل بكل تلك الجهود. وكان شمعون بيريز وزير خارجية إسرائيل، وقتها، قد ألقى كلمة في مؤتمر القمة الشرق أوسطية في عمان (1995)، قال فيها: "لا يوجد لدى الدول العربية اقتصاد وإنما لديها فقر ولا يوجد أحد يرغب في الهيمنة على الفقر... اقتصاد إسرائيل يعتمد على التجارة مع الغرب وليس مع الدول العربية... إسرائيل تنتج من أدمغتها أكثر مما تدره آبار النفط".
وقد جددت إسرائيل ذلك مرة ثانية برفضها القاطع للمبادرة العربية للسلام، التي صدرت عن مؤتمر القمة العربية في بيروت (2002)، والتي تضمنت اعتبار النزاع العربي الإسرائيلي منتهيا، وإنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار السلام الشامل.
وفي الغضون، لا حاجة للتدليل على رفض إسرائيل للتطبيع، بتقويضها الاتفاقات مع الفلسطينيين، منذ 1993، إذ ما زالت إسرائيل، بعد أزيد من ثلاثة عقود، تواصل الاستيطان في كل شبر في الضفة، والسعي لتغيير معالم القدس، والهيمنة على حياة الفلسطينيين، وها هي تشن حرب إبادة وحشية لمحو غزة، واحتلالها، وتشريد سكانها.
وتبعا لذلك يفترض مراجعة المفهوم السائد، المضلل والسطحي عن التطبيع، الذي يتأسس في الذهنية الإسرائيلية، على إقامة علاقات اقتصادية، والتعاون في مجالات البني التحتية. وبحسب شمعون بيريز "لن تكون هناك تسوية دائمة إذا لم يقم شرق أوسط جديد... خصوصاً في ثلاثة أمور: الحرب على الصحراء من أجل إنتاج الغذاء، تطوير السياحة التي هي صناعة كبيرة وصناعة سياسية... وكذلك بنية تحتية". ("دافار" 24/9/1993) وكان بيريز يؤكد على التلاقح بين ثلاثة عوامل، المال النفطي، واليد العاملة المصرية، و"العبقرية" الإسرائيلية.
وربما يفيد التذكير بأن نتنياهو الذي صعد لأول مرة إلى رئاسة الحكومة في إسرائيل (1996-1999)، الذي يتحدث اليوم صراحة عن حلمه بـ"إسرائيل الكبرى" التي تضم أراضي من دول عربية، هو الذي دفن "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، وهو الذي قوض اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، أكثر مما فعل أي أحد آخر من الرافضين أو الممانعين في العالم العربي، بالضد من الأوهام حول التطبيع، وحول توسيعه عربيا، وهذا ديدن سلفه إسحق شامير، في قيادة حزب "الليكود"، الذي قال بمعرض تمنعه عن الانخراط في مؤتمر مدريد: "إسرائيل نصف الشرق الأوسط"، ("دافار"، 29/9/1991) كدلالة على قوتها ونفوذها ومكانتها في العالم.
باختصار، إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية ودولة الإبادة الجماعية الوحشية، غير قابلة للتطبيع، وغير قابلة للتحول إلى دولة عادية وهذا ما يفترض إدراكه. أما التطبيع عندها، فهو يتمثل بالهيمنة على دول المشرق العربي، خاصة، والشرق الأوسط، أمنيا واقتصاديا، وتعميم خاصيتها كدولة طائفية في المنطقة، أي بدل أن تطبع هي مع العالم العربي، تريد طبع دول المشرق العربي بطابعها، وهو حاصل في لبنان، وحصل في العراق، وهذا ما يفسر ما تحاوله اليوم في سوريا، بدعوى حماية الأقليات، بحيث تصبح استثنائيتها أمرا عاديا وطبيعيا بين دول تتألف من هويات طائفية وإثنية... هذا هو التطبيع إسرائيليا.