حُمى الأعلام... صيف السُخط والتطرف القومي في بريطانيا

الأعلام ليست بالبساطة التي توحي بها مظاهرها

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رجال الشرطة في المقدمة بينما يحمل أنصار جماعة "بريطانيا أولاً" اليمينية المتطرفة الأعلام الوطنية خلال مسيرة مناهضة للمهاجرين، والتي تدعو إلى عمليات ترحيل جماعية، مانشستر، 2 أغسطس

حُمى الأعلام... صيف السُخط والتطرف القومي في بريطانيا

في إحدى رحلاتي الأخيرة إلى لندن، ابتكرت لعبة صغيرة لتمضية الوقت على الطرق السريعة الكئيبة في بريطانيا: لعبة عدّ الأعلام. طوال الطريق، راحت تتراءى أمامنا رايات الاتحاد البريطاني (علم المملكة المتحدة) إلى جانب الصليب الأحمر البسيط على خلفية بيضاء، شعار القديس جورج ورمز إنجلترا. كانت الأعلام متدلية بخفوت من فوق الجسور. تساءلت إن كان ثمة سبب لهذا المشهد: هل يخوض المنتخب الإنجليزي بطولة كبرى؟ أم أن الملك يحتفل بذكرى يوبيل أو مناسبة وطنية؟

لم يكن الأمر كذلك. ومع انقضاء واحد من أطول وأشد صيف عرفته البلاد جفافا، بدا أن الشعب البريطاني بأسره قد اتحد في احتفال بذاته، انفجار جماعي من الثقة الوطنية، منبعث من أصدق الدوافع: الفخر بالانتماء إلى الأرض. أعلام كثيرة، لكنها تبدو للوهلة الأولى مجرد تعبير بريء عن رضا ذاتي لا يضير أحدا.

علام كثيرة، لكنها تبدو للوهلة الأولى مجرد تعبير بريء عن رضا ذاتي لا يضير أحدا.

لكن الأعلام ليست بالبساطة التي توحي بها مظاهرها. ف

لكن الأعلام ليست بالبساطة التي توحي بها مظاهرها. ففي ظاهرة بدأت صيف العام الماضي وتجددت هذا الصيف بقوة أكبر، يبدو أن البريطانيين يعيشون أزمة هوية. كانت البداية مع أعمال الشغب التي مهّدت الطريق لحكومة العمال الجديدة، بعدما أشعلها هجوم دموي على أطفال عزل في ساوثبورت. وكعادتها في تجاهل الحقائق، التقطت وسائل التواصل الاجتماعي الشائعة بأن منفذ الجريمة طالب لجوء، على الأرجح مسلم، فسارع غرباء إلى البلدة، واحتشدوا في شوارعها، محاصرين مسجدها في أجواء مشحونة بالغضب والريبة.

وتوالت الهجمات. من أبرزها الهجوم على فندق قيل إنه يأوي لاجئين، حيث حاول المحتجون اقتحامه، ولما فشلوا أشعلوا فيه النيران. وكانت المعجزة ألا يسفر الحادث عن قتلى.

وبعد عام كامل، لا تزال التوترات حول ملف الهجرة مشتعلة، بل هي ازدادت التهابا. وأبرز الأمثلة اليوم هو فندق "ذا بيل" في مدينة إيبينغ، التي حاول المجلس المحلي فيها الطعن في حق الحكومة باستخدام الفندق لإيواء المهاجرين، لكنه خسر القضية. بقي المهاجرون في أماكنهم، غير أن ذلك لم يُهدئ الأجواء؛ فالاحتجاجات ما زالت مستمرة، والغضب لم يخفت.

ما بدا في البداية مجرد هوس عشوائي بالأعلام هو في الحقيقة جزء من حملة منظمة استولت على مخيلة الأمة." فمن نيوكاسل إلى نورويتش، راحت الأعلام تتدلى من أعمدة الإنارة. وحين اعترضت بعض المجالس المحلية على هذه "الوطنية التلقائية،" بادر السكان إلى شراء أعمدة خاصة وتثبيتها أمام بيوتهم.

في أحياء مثل تاور هامليتس وبرمنغهام، يُقرأ انتشار الأعلام المفاجئ كرد فعل على الرايات الفلسطينية التي رُفعت منذ اندلاع حرب غزة. أما في أماكن أخرى، فهي تبدو أشبه باحتجاج صامت ضد المهاجرين الذين يعبرون القنال الإنجليزي في قوارب واهية ويصلون إلى شواطئ مقاطعة كِنت. وككل الأعلام، فهي صامتة بطبيعتها، لكن ما يمنحها معناها هو السياق: متى وأين تُرفع.

وكان الصليب الأحمر على خلفية بيضاء – صليب القديس جورج، شفيع إنجلترا – أكثر حضورا بكثير من علم الاتحاد البريطاني في إحصائي على الطرق السريعة. جذوره تعود إلى الحروب الصليبية، لكنه صار اليوم شعارا شائعا بين مشجعي كرة القدم الإنجليز، الذين يرتدونه في المدرجات أحيانا مع دروع وسلاسل معدنية تستعيد أجواء القرون الوسطى.

غير أن هذا العلم بدأ يظهر في أماكن غير مألوفة. ففي كناري وورف، قرب فندق قيل إنه يأوي طالبي لجوء، لم يُرفع على قطعة قماش، بل رُسم بجرأة على خطوط معبر مشاة. وفي مكان آخر، جرى عكس ألوانه بالخطأ على جزيرة مرورية، فبدا لا كعلم إنجلترا، بل كعلم الدنمارك.

وقد علّق أحد قراء صحيفة الغارديان، ويدعى أندرو غولد، بسخرية على هذه المفارقة قائلا: إن ريتشارد قلب الأسد هو من تبنى هذه الراية أول مرة، ومع ذلك قضى معظم حياته في فرنسا، بالكاد وطئت قدماه إنجلترا، ولم يتحدث الإنجليزية مطلقا. أما القديس جورج نفسه فكان جنديا رومانيا، وُلد فيما يُعرف اليوم بتركيا، واستشهد من أجل إيمانه المسيحي. ثم ختم غولد متهكما: "يا لها من تعددية ثقافية تجعلك فخورا بكونك بريطانيا."

فمن أين جاء هذا الطوفان المفاجئ من الصلبان؟ الحقيقة أن العفوية لا تفسره. وراءه حملة منظمة تُعرف باسم "عملية رفع الألوان". ووفقا لمنظمة "الأمل لا الكراهية Hope Not Hate،" فإن أحد مؤسسي الحملة هو أندرو كوريين، الذي يفضّل أن يُعرف باسمه الحركي "آندي ساكسون".

وصفت صحيفة التايمز ساكسون بأنه "عامل دهان من ولفرهامبتون… وأب لخمسة أطفال". لكنها أغفلت ما هو أهم: أنه كان في السابق حارسا شخصيا لرابطة الدفاع الإنجليزية، ويشغل حاليا موقع المسؤول الأمني في حركة "بريطانيا أولا" المتطرفة

وقد وصفت صحيفة التايمز ساكسون بأنه "عامل دهان من ولفرهامبتون… وأب لخمسة أطفال". لكنها أغفلت ما هو أهم: أنه كان في السابق حارسا شخصيا لرابطة الدفاع الإنجليزية، ويشغل حاليا موقع المسؤول الأمني في حركة "بريطانيا أولا" المتطرفة. كما أن سجله يضم حادثة لا يرغب على الأرجح في استحضارها: ففي عام 2009 شارك في شجار عنيف ذي طابع عنصري انتهى بمقتل رجل سحقا تحت سيارة، فحُكم عليه بالسجن مع خمسة آخرين.

أما صفحة الحملة على فيسبوك، فتكشف بوضوح عن توجهاتها. فهي تحتفي بتجمع "حرية التعبير" المقرر في سبتمبر بقيادة الناشط اليميني المتطرف تومي روبنسون، وتنشر إعلانات عن احتجاجات وشيكة أمام فنادق تؤوي طالبي لجوء. كما لا تخلو من التلميحات المألوفة لنظريات المؤامرة: تحذيرات من أن "أسيادنا باعونا للإسلام" وأن "الاستبدال قد بدأ".

وقد أثارت الحملة ردود فعل تجاوزت حدود بريطانيا. فقد نشر إيلون ماسك، الملياردير التقني والداعم الصريح لحزب ريفورم يو كيه، صورة لصليب القديس جورج على حسابه في منصة "إكس،" بينما دعا نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس البريطانيين إلى "التصدي للمجانين" الذين يعترضون على رفع الأعلام.

أ.ف.ب
متظاهرون يحملون لافتات كتب عليها "اختر المحبة"، "اللاجئون مرحب بهم"، "لا تستسلم للكراهية"، و"المهاجرون يصنعون نظامنا الصحي"، أثناء تصديهم لاحتجاج مناهض للهجرة في لندن

وليس استخدام الأعلام لإثبات الانتماء بالأمر الجديد. ففي أيرلندا الشمالية، اعتاد الكاثوليك إطلاق وصف "مئزر الجزار" على علم الاتحاد البريطاني، وكانت الولاءات الطائفية تنعكس دوما في الرايات المرفوعة. ومؤخرا، في بلدة باليمينا، اكتسبت الأعلام وظيفة مختلفة، حين انتشرت شائعة أن رجلا روماني الأصل تحرش ببعض الفتيات المحليات، فاندفع حشد غاضب إلى منازل يُعتقد أنها تعود لرومانيين. حُطمت النوافذ وأُضرمت النيران في البيوت، وكان الدمار من الشدة بحيث اضطر كثير من أبناء الأقليات إلى مغادرة البلدة نهائيا. أما من بقي، فقد لجأ إلى تعليق الأعلام على نوافذ المنازل، بل إن بعضهم رفع لافتات صفراء كتب عليها: "سكان محليون يعيشون هنا". وليس من الصعب أن نتخيل أنه إذا تصاعدت "عملية رفع الألوان،" قد يشعر حتى المواطنون العاديون غير المسيسين بضغط يدفعهم إلى إعلان ولائهم بالطريقة نفسها.

وفي خطوة يصعب اعتبارها محض صدفة، أطلق نايجل فاراج أحدث حملاته تحت اسم "عملية استعادة العدالة". زعيم ريفورم يو كيه مغرم بما يسميه "العمليات،" وهو لم يخف إعجابه بـ "العملية العسكرية الخاصة" التي يشنها فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا. وقد جرى إطلاق المبادرة في حظيرة طائرات، حيث وقف فاراج إلى جانب ذراعه اليمنى، ضياء يوسف. وأكد الاثنان أن الوقت قد حان لوقف عبور القنال بشكل نهائي.

وقال الرجلان إن المهاجرين في معظمهم رجال في "سن القتال" قادمون من دول "لا تحترم النساء،" وتعهد فاراج بأن أي حكومة يقودها حزبه ستلغي قوانين حقوق الإنسان لتتجاوز ما وصفه بـ "المحاكم المستيقظة،" وسترحل هؤلاء "غير الشرعيين" إلى بلدانهم، حتى لو استدعى الأمر دفع المال لحكومات تلك البلدان كي تستقبلهم من جديد.

يعود هذا الذعر الأخلاقي حول الهجرة غالبا إلى ثنائية مألوفة: أن المهاجرين رجال في الأساس، وأن النساء في مجتمعاتهم يُعاملن كمواطنات من الدرجة الثانية

ويعود هذا الذعر الأخلاقي حول الهجرة غالبا إلى ثنائية مألوفة: أن المهاجرين رجال في الأساس، وأن النساء في مجتمعاتهم يُعاملن كمواطنات من الدرجة الثانية. هذا الخطاب بالتحديد هو ما دفع روبرت جينريك، أحد أبرز الطامحين لزعامة ما تبقى من حزب المحافظين، إلى القول إنه لا يرغب أن تعيش بناته بالقرب من فندق يأوي طالبي لجوء. وقد شوهد أيضا وهو يرفع علما في دائرته الانتخابية في نيوآرك، مهاجما ما سماه "المجالس الكارهة لبريطانيا" التي أنزلت بعض الأعلام.

لكن هذه السردية تصاعدت بسرعة، أحيانا بنتائج كئيبة تثير السخرية. فقد أعلن لي أندرسون، النائب الدائم الغضب عن ريفورم يو كيه، أن أي مسؤول منتخب يوافق على إزالة الأعلام البريطانية أو الإنجليزية "يجب أن يُطرد من منصبه لأنه خان البلد الذي يخدمه".

ومع ذلك، فإن المجلس المحلي في نورثهامبتونشاير، الذي يديره الحزب نفسه، خلص إلى أنه قد يكون من الضروري إنزال بعض الأعلام حفاظا على سلامة السكان، موضحا أن الحبال التي رُفعت بها قد تشكل خطرا حقيقيا على الأهالي.

ويبدو أن هذا هو التطور الأحدث. ففي دورهام، حيث يسيطر حزب ريفورم على المجلس المحلي سيطرة كاملة بعدد مقاعد يفوق مجموع ما تملكه بقية الأحزاب مجتمعة، عبّر المسؤولون عن قلق مشابه حيال موجة الأعلام. بل ذهبوا إلى إصدار بيان على منصة إكس قالوا فيه إنهم "يتفهمون ويحترمون رغبة المجتمع في التعبير عن الفخر الوطني أو الاحتفال أو التذكر، غير أن من المهم ألا تُعرّض مثل هذه المظاهر السلامة العامة للخطر".

وأضاف المجلس أنه "لم يكن أمامه خيار سوى إزالة الزينة" بعدما كشف فحص للسلامة أن الحبال المستخدمة كانت قوية إلى درجة أنه لو اصطدمت بها مركبة مرتفعة لجرّت الأعمدة معها وتسببت في أضرار خطيرة محتملة.

وعندما يبدأ مجلس يميني متشدد بالحديث وكأنه مفتش صحة وسلامة، فاعلم أن الدنيا قد انقلبت رأسا على عقب. فهل ينتهي الأمر بحزب ريفورم يو كيه نفسه ضحية لما يسميه إيلون ماسك "فيروس العقل المستيقظ؟"

وفي الوقت ذاته تقريبا، وبعد خطابه الصاخب لإطلاق عملية استعادة العدالة، عاد نايجل فاراج إلى قضية الترحيل الجماعي الشائكة. لكنه سارع إلى طمأنة الجمهور بأن النساء والأطفال لن يعادوا في النهاية إلى بلدانهم الأصلية. وبالوتيرة الراهنة، قد لا يمر وقت طويل قبل أن نسمع ماسك وفانس يشتكيان من المخربين الذين يعبثون بالدوارات عبر طلاء أعلام وطنية ـ إنجليزيةً كانت أم دنماركية.

font change