تفكيك خطاب المظلومية

تفكيك خطاب المظلومية

استمع إلى المقال دقيقة

في السياسة، لا يتم الانتصار بالقوة وحدها، بل بمحاولات إقناع الآخرين بأنك على حق حتى لو كنت كاذبا. وهذا هو جوهر ما فعلته إسرائيل منذ عام 1948، وما هي مستمرة في فعله بوتيرة أوضح في أيامنا هذه، وهو ما أكد للعالم أن القضية ليست مجرد احتلال أرض، بل احتلال مفاهيم، وإعادة صياغة سرديات، وتوسيع مشروع استعماري مغلف بخطاب حداثي يخادع من لا يقرأ التاريخ جيدا، حين توضع بين مطرقة التكرار وسندان الإعلام وخطابات المظلومية الناعمة.

لم تكن إسرائيل، بمساعدة القوى الداعمة لها، تسعى إلى رسم حدود على الخريطة فحسب بل إلى إعادة ترسيم الحدود داخل العقول. لهذا فهمت مبكرا أن السيطرة العسكرية لا تدوم ما لم ترافقها هيمنة رمزية ونفسية تعيد تعريف الظالم كمظلوم، والمعتدي كضحية، والمحتل كصاحب حق. لذلك شرعت في بناء مشروع دعائي ضخم، عابر للثقافات واللغات، هدفه الأساسي إعادة تشكيل وعي جمعي عالمي يكرس سردية واحدة: أن اليهود شعب مضطهد، نجا من أهوال محرقة "الهولوكوست" ولا يطلب سوى ملاذ آمن وسط محيط عدائي متوحش.

هذا التلاعب الفج بالمفاهيم تأسس منذ البدء في التعليم الإسرائيلي المُصمم على أساس مركزي، فمن الروضة حتى الجامعة يكرس درس واحد: أنت لا تحتل، بل تعود إلى وطنك. الفلسطيني لا يقاتل من أجل حريته، بل يرفض وجودك لأنك يهودي. والأرض ملكك وأنت وريثها الأصلي. هذه البرمجة النفسية طويلة الأمد صنعت أجيالا ترى الاحتلال تحررا، والاستيطان إعمارا، ومطالبة أصحاب الأرض بحقوقهم عدوانا.

لم تكتف إسرائيل بذلك، بل وظفت من أجل ذلك الإعلام، والفنون، ومراكز الأبحاث، بهدف قلب الحقائق، وتقديم الإسرائيلي الذي بنى وجوده على القهر والاقتلاع في صورة المدافع عن أرضه، مستندة على استراتيجيات نفسية دقيقة قائمة على مفهوم المظلومية التاريخية.

هنا يتجلى أحد أقوى مفاهيم علم النفس الاجتماعي، وهو "الإقناع بالتكرار"، حيث تتحول الأكاذيب عبر التكرار المستمر إلى حقائق لا تُناقش، يتشربها العقل الباطن وتُبنى عليها القرارات والسياسات والمواقف

واليوم ظهر بوضوح خطر هذا المشروع، تحديدا في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول "إسرائيل الكبرى" الذي خلق أزمة صراع مصطلحي، إذ إن الحديث لم يعد عن دولتين أو عن حدود 1967، بل إن هناك قفزة صريحة نحو خطاب توسعي يرى أن كل الأرض من النيل إلى الفرات جزء من "الحق التاريخي".

وهنا يتجلى أحد أقوى مفاهيم علم النفس الاجتماعي، وهو "الإقناع بالتكرار"، حيث تتحول الأكاذيب عبر التكرار المستمر إلى حقائق لا تُناقش، يتشربها العقل الباطن وتُبنى عليها القرارات والسياسات والمواقف. وقد كرر الإعلام الإسرائيلي والغربي الرسائل نفسها لعقود: اليهود ضحايا، إسرائيل مهددة، الفلسطينيون عنيفون. هذا التكرار لم يكن عبثيا، بل متعمد ومدروس، استُخدمت فيه أدوات سيكولوجية وإعلامية متقدمة من أجل توحيد الإدراك العالمي على رؤية واحدة.

لم تعد المعركة إذن تخاض على الأرض، بل في الفضاءات الرمزية، والذاكرة الجمعية، وفي الطريقة التي نقدم بها أنفسنا وقضايانا وهويتنا. هذا التحدي المعرفي ليس ترفا ثقافيا، بل بات ضرورة استراتيجية، تزيدنا يقينا بأننا أمام خطاب سياسي ذي نفوذ إعلامي عالمي تسعى خطاباته المتكررة إلى إدارة السردية، وتشويه المفاهيم، وإعادة برمجة العقول، ما يُلزم العالم العربي ببناء مختبرات خطابية متقدمة، قادرة على طرح سردية متماسكة تخاطب الداخل بثقة، والخارج بلغة يفهمها، لأن الرواية التاريخية الحقيقية لدينا.

نحن اليوم في حاجة إلى أصوات عقلانية مضادة، ذات لغة تتسم بالرصانة لا العاطفة، وبالعمق لا الشعارات، متزن لا منفعل، ليتمكن من تفكيك الخطاب الإسرائيلي الناعم، المتناغم مع سياسات عالمية تتشكل بحجج معرفية، وليجيب عن سؤال استراتيجي: كيف نبني سرديتنا؟ لا كيف نرد على سردية الآخر.

إن الاستثمار في خطاب عربي عقلاني، ذكي، متزن، يتقاطع مع القيم الدولية دون أن يفرط في ثوابته هو أحد أهم أدوات تعزيز الأمن الفكري العربي

إننا نعيش في عالم جديد كليا تحكمه الصورة، ويُشكله الخطاب، ويتحكم فيه التكرار. لهذا لم يعد كافيا أن نملك الحق وحده، بل يجب أن نُتقن التعبير عنه، بلغة تُقنع، وتفرض الاحترام، فصاحب الحق لا ينتصر فقط لأنه صاحب حق، بل لأنه الأقدر على تجسيد هذا الحق في سردية مقنعة، وأدوات فعالة. أما الحق المعزول عن المنصات المؤثرة، والمجرد من السردية، فسيتحول- مهما كان ناصعا- إلى صدى باهت لا يكاد يُسمع.

من هنا أؤمن بأن الدور الذي تقوده المملكة العربية السعودية اليوم يظل حاسما، ليس بسبب ثقلها السياسي والديني فقط، بل لما تمتلكه من تأثير ثقافي وزخم إعلامي متنام تجاوز الإقليمية وبات لاعبا دوليا بمقدوره صياغة خطاب عربي جامع، يتجاوز الانقسامات التقليدية، نحو مشروع معرفي يؤسس لمرحلة جديدة من الفهم والتأثير.

إن الاستثمار في خطاب عربي عقلاني، ذكي، متزن، يتقاطع مع القيم الدولية دون أن يفرط في ثوابته هو أحد أهم أدوات تعزيز الأمن الفكري العربي في هذا التوقيت تحديدا، لحماية قضاياه العادلة قبل طمسها الكلي أو إيصالها إلى نهايات مغلقة.

font change