هذه الأيام، يظهر قطاع واسع من النخب السياسية والإعلامية والثقافية التركية شعورا عارما بالصدمة لما يجري في البلاد، خاصة فيما يتعلق بملف السلام والمصالحة بين الدولة و"حزب العمال الكردستاني"، وما سيترتب على ذلك من تشريعات برلمانية ومسارات سياسية لصالح الحقوق الكردية في البلاد، أو سعي العلويين لتشكيل تنظيمات سياسية معبرة عن تطلعاتهم ومدافعة عن مظلوميتهم التاريخية.
هذه التحولات لخصها زعيم الحركة الوطنية "القومية المتطرفة" دولت بهجلي بدعوته لأن يكون لرئيس تركيا نائبان، واحد كردي وآخر علوي، ما أثار غضب هذه النخب بشكل حاد.
لا تبخل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ومقالات الصحافة اليومية وتعليقات الكثير من الساسة الأتراك بتعبيرات الرفض والاستنكار لذلك. حيث إن مصدرها والجامع المشترك بينهم كلهم هو تسليمهم المطلق بـ"السردية الميتافيزيقية" للتاريخ والهوية الوطنية، التي شغلت طوال قرن كامل مضى مكانة من القداسة المفرطة، وفرضت على الوعي الجمعي عبر كل مؤسسات الدولة وأدوات قوتها، المادية والرمزية، ورصدت لأجل تثبيتها وتبجيلها إمكانيات استثنائية، حتى يمكن القول إن الكيان والدولة التركية الحديثة انبلجت عن هذه السردية الوطنية، لا العكس. فالمنظومة الذهنية القومية الأتاتوركية، منذ ما سمي "حرب الاستقلال 1918-1923"، تعتبر الإيمان والتسليم المطلق بالتاريخ الرسمي جوهر الانتماء الوطني.
يصطدم ذلك الوعي الخرساني بتحولات الحاضر. فالأحداث السياسية الراهنة والمستقبلية تنخر الرواية الرسمية بجلال قدرها. على الأقل تعتبرها واحدة من السرديات الكثيرة حول تاريخ البلاد، وتاليا هويته وشكله ومستقبله. تفعل ذلك لأنها حسب التحولات الراهنة ستفرض عليه سرديات أخرى، متأتية من روح ما بعد الحداثة، تقول أشياء من مثل إن الأكراد والعلويين والعرب واللاز وباقي الجماعات لهم رؤى وأقاصيص أخرى حول ما حدث وتراكم في التاريخ الحديث المشترك. فما نعته التاريخ الرسمي بالبطولات والأمجاد، كان الآخرون يصنفونه قمعا ومحقا لحقوقهم، وما اعتبرته السردية الوطنية تأسيسا للدولة ومؤسساتها، كانت الحكاية المقموعة تجده تشييدا للفوقية السياسية والسادية الرمزية والهيمنة الأمنية على حقهم بإحراز جدارة متساوية.
ثمة ما هو مشترك وخفي بين كل تلك الأيديولوجيات العقائدية والنزعات السياسية التي تقاسمت التاريخ التركي الحديث، فهي جميعا كانت قائمة على نوع من القومية المضمرة
طول تاريخها الحديث، قدمت تركيا نموذجا لافتا للنظر في هذا السياق، عجزت دراسات علم الاجتماع السياسي الكثيرة عن تفسيره بوضوح. فالدولة التي مرت خلال العقود الماضية بتحولات سياسية وموجات أيديولوجية مختلفة، يسارية وإسلامية ووطنية وإصلاحية وتنموية وحتى أناركية لم تهتز فيها تلك السردية الوطنية قط، التي بقيت كهيكل مقدس مهيمن على كل شيء. فأعضاء مختلف هذه التنظيمات الأيديولوجية والتجارب السياسية، ومهما كانت حدة وجذرية معارضتهم للنظام الحاكم، وإن كانوا ثوريين مطلقين، بقوا محافظين ومسلمين بتلك السردية الرسمية. يبدو ذلك أمرا عجائبيا من حيث المبدأ، لكن الإدراك بأن التشكيك في الحكاية الرسمية المؤسسة للدولة سيؤدي بالضرورة إلى التشكيك بهوية وشرعية وحتمية وجود الدولة نفسها، قد يعطي تفسيرا ما لذلك.
وكان ثمة ما هو مشترك وخفي بين كل تلك الأيديولوجيات العقائدية والنزعات السياسية التي تقاسمت التاريخ التركي الحديث، فهي جميعا كانت قائمة على نوع من القومية المضمرة، القومية التي ليست تنظيما أو خطابا متمركزا حول العرق واللغة، بل كانت وعيا داخليا يرفض مطلقا فكرة تقول إن ثمة جماعات متناقضة على هذه الجغرافيا، تملك مصالح وتطلعات ومشاريع ووعيا للذات وشكل الكيان والتاريخ السحيق متباينة تماما، بل ومتصارعة غالبا. تلك التباينات التي لا يمكن تغطيتها بشيء من الخطابات التبشيرية حول المصالح المشتركة وأهمية التعايش وقدرة مؤسسات الدولة على استيعاب الجميع. هذه القومية المبطنة كانت حاضرة في كل تفاصيل التنظيمات السياسية والأيديولوجية التي حملتها القوى التركية منذ الاستقلال.
منذ أواسط التسعينات، وبفعل التحولات الهائلة في مختلف بقاع العالم، رضي الوعي الجمعي السياسي والثقافي التركي بوجود "هويات ما" في البلاد، لكنها صنفتها كتنويعات ضمن الذات القومية الكلية للبلاد، التي أطرها وحددها التاريخ الرسمي. فصحيح قيل إنه ثمة أكراد وعلويون وعرب ولاز وأرمن في المعاش اليومي للدولة التركية، لكنهم عرضوا كجماعات ذات "تاريخ إثنوغرافي" فحسب، أي دون تاريخ سياسي أو خصائص أمة. عبر تحريم طرح ما لديهم من تناقضات جوهرية مع الدولة/المركز. لاكتشاف ذلك، تكفي متابعة القناة الوطنية باللغة الكردية "TRT6"، التي تقدم الأكراد كجماعة ثقافية فحسب، مزيج من البرامج الموسيقية والدينية والغذائية والدراما الاجتماعية، دون أي تطرق للقضية السياسية الكردية، بكل عمقها وتأثيرها ودورها في حياة ملايين البشر.
تأخذ تركيا اليوم فرصة استثنائية لإعادة تشييد هيكل جديد لتاريخها المعاصر، أكثر رحابة وقبولا بالتنوع الداخلي
تأخذ المسألة في تركيا بعدا تراجيديا، لأن هذا التأريخ الرسمي للدولة الحديثة هو ما بقي بحوزتهم من "تاريخ". فما كانوا يعتبرونه ملحمتهم الخاصة عبر العصور، أي التاريخ العثماني، تعرض طوال قرن كامل مضى لسلسلة من الضربات، على أيادي المؤرخين والرواة الجدد، من أبناء الجماعات التي خرجت من سطوة الهيمنة العثمانية. فالمكتبات العربية والأرمنية واليونانية والصربية والرومانية متخمة بترسانة من الكتابات التقريعية بحق الحقبة العثمانية، والتي لكثرتها وحذاقتها وما فيها من حقائق دامغة، منعت الكثير من المؤرخين الأتراك البقاء في موقع الاحتفاء والتقديس لتلك الحقبة التاريخية. بذا لم يبقَ لديهم إلا هذا التاريخ الرسمي الحديث.
لكن، ومع كل ذلك، تأخذ تركيا اليوم فرصة استثنائية لإعادة تشييد هيكل جديد لتاريخها المعاصر، أكثر رحابة وقبولا بالتنوع الداخلي. فالكثير من دول العالم، وحينما أعادت تركيب مجالها الداخلي سياسيا، عبر نظامٍ أكثر تشاركية وقبولا للمختلفين في المتن الوطني، إنما فسحت المجال واسعا أمام رؤى مركبة ومتجاورة وربما متناقضة للتاريخ الوطني، ذاك التنوع أزال القداسة بالضرورة عن مفاهيم مثل الوطن والدولة والسلطة والمؤسسات العامة، التي من المفترض أن تكون في خدمة المواطنين لا العكس.