الاعتراف بفلسطين يحاصر إسرائيل سياسيا

ارتكبت تل أبيب خطأ جسيما حين تورطت في استهداف مباشر للدوحة

الاعتراف بفلسطين يحاصر إسرائيل سياسيا

استمع إلى المقال دقيقة

لم تكن إسرائيل تخشى عبر تاريخها الممتد منذ عام 1948 الحروب بقدر ما تخشى العزلة. الحصار العسكري بالنسبة لها حدث مألوف، مأخوذ في الحسابات، بل وفي بعض الأحيان يتم توظيفه لتغذية سردية "الدولة المحاصرة" التي تجيد تسويقها غربيا، وتستثمرها داخليا. أما الحصار السياسي، فهو الخطر الوجودي الذي يربك حساباتها ويصيب أعماقها، لأنه ببساطة لا يمكن الرد عليه بصاروخ، ولا إسكاته بالدعاية، هو نوع من تضييق الخناق البطيء، الذي يُفقد إسرائيل أهم ما بنت عليه مشروعها المتمثل في الشرعية الدولية، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر مؤخرا إلى وصف الاعترافات المتتالية بدولة فلسطينية بـ"الحصار السياسي".

هذا ما نشهده اليوم، لأول مرة منذ عقود، ترى إسرائيل أنها تتعرض لضغط سياسي متنامٍ، لا تقوده الجماهير أو حملات المقاطعة، بل تصنعه الدول ذاتها بسلسلة الاعترافات بدولة فلسطين. وآخر هذه التحولات، التصويت التاريخي الذي جرى في الأمم المتحدة، بقيادة سعودية-فرنسية، حيث أيدت 142 دولة ما بات يعرف بـ"إعلان نيويورك" الداعم للاعتراف بدولة فلسطين، والمؤكد على ضرورة تنفيذ "حل الدولتين"، حيث لم يكن هذا التصويت مجرد خطوة رمزية، بل بدا كأكبر إجماع دولي على كسر الجمود السياسي وإعادة تموضع الموقف العالمي من القضية الفلسطينية، وكأن العالم قرر- ولو تدريجيا- سحب ورقة المماطلة من يد تل أبيب، ووضع أسس جديدة لتسوية تفرضها الإرادة الدولية لا موازين القوة فقط.

في المقابل، إسرائيل التي طالما وظفت مفهوم "الهجوم العربي" كمبرر لأي تصعيد أو توسع، تجد نفسها الآن في موقف دفاعي لا يمكن المناورة فيه، لا دبابات ولا أنفاق ولا تهديدات وجودية، بل أوراق رسمية مختومة من وزارات خارجية، تحرج حلفاءها وتكشف هشاشة ادعاءاتها، هذا هو الحصار الذي لا يجدي معه قصف، ولا ينفع معه تذكير العالم بالمحرقة.

السعودية لا تستثمر في الفوضى، بل في الاستقرار، ودعمها للدولة الفلسطينية ينطلق من إيمان بأن استقرار المنطقة يبدأ من إنهاء هذا النزاع المزمن

وفي ذروة هذا الانكشاف، لم تتورط إسرائيل فقط في ردود فعل دبلوماسية غاضبة، بل ارتكبت خطأ جسيما حين تورطت في استهداف مباشر للعاصمة القطرية الدوحة، في سابقة خطيرة تكشف مدى تخبط المؤسسة الإسرائيلية أمام التحولات السياسية المتسارعة، وفي "خط أحمر" جديد تتجاوزه تل أبيب، ليس لأن الدوحة عاصمة عربية وخليجية فحسب، بل لأنها تقود دورا دبلوماسيا في الوساطة، وهو ما يجعل هذا التصعيد بمثابة ردة فعل متشنجة أمام الحراك السياسي الذي تخشاه تل أبيب أكثر من أي تهديد عسكري.

الحقيقة أن الاعتراف المتزايد بفلسطين يعيد تعريف قواعد الاشتباك السياسي مع إسرائيل، فإذا كانت تل أبيب قد اعتادت أن تكون الطرف الممسك بزمام المبادرة– سواء في المفاوضات أو في الضربات الوقائية– فإن ما يجري اليوم ينتزع منها هذه الأفضلية، إنه نوع من الرد العالمي على سلوكها في غزة والضفة، وعلى إصرارها على دفن كل مسار تفاوضي حقيقي، فالعالم أو على الأقل جزؤه النشط، قرر أن يسحب منها "الفيتو الصامت" على الدولة الفلسطينية.

وسط هذا التحول، تلعب السعودية دورا بالغ الأهمية، ليس فقط كمجرد دولة داعمة للقضية الفلسطينية، بل كفاعل إقليمي يُعيد ترتيب الأولويات ويؤطر التحرك الدولي، فمنذ اليوم الأول للحرب على غزة اتخذت الرياض موقفا واضحا: (الإدانة، الدعم الإنساني، والتحرك السياسي) لكنها في العمق ذهبت إلى أبعد من ذلك، تبنت فكرة أن "حل الدولتين" لم يعد خيارا تفاوضيا، بل أصبح مطلبا دوليا يجب فرضه على الطاولة، هذه المقاربة تعيد ترسيم الخط الفاصل بين الواقعية السياسية والمزايدة الشعاراتية.

في هذا السياق، تقود السعودية حملة دولية للاعتراف بدولة فلسطينية ودعم "حل الدولتين"، ونجحت في انتزاع اعترافات ونوايا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية من أطراف دولية متباعدة، ولعل الفارق أن السعودية لا تتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها ملفا عاطفيا يدار بالبيانات، بل كأزمة سياسية تتطلب أدوات دبلوماسية مؤثرة، وخريطة تحالفات جديدة، وهذا ما يجعل صوت الرياض مسموعا، ليس فقط في العالم العربي، بل في العواصم الغربية التي تبحث عن شريك عاقل، لا يكتفي باللوم، بل يقترح ويقود.

الأهم من كل ذلك، هو أن السعودية لا تستثمر في الفوضى، بل في الاستقرار، ودعمها للدولة الفلسطينية ينطلق من إيمان بأن استقرار المنطقة يبدأ من إنهاء هذا النزاع المزمن، ولهذا فإن تحركها السياسي موجه بوضوح نحو الضغط على الدول المترددة للاعتراف، وتهيئة مناخ تفاوضي لا يسمح بتكرار اسطوانة "عملية السلام" التي تحولت لعقود إلى مسار استنزاف بلا أفق.

المؤكد أن معادلة "إدارة الصراع" التي كانت تل أبيب تتفرد بتحديد شروطها، لم تعد قائمة، فهناك قوى جديدة ترسم الإطار

قد يرى البعض أن إسرائيل قادرة على امتصاص هذا الضغط، وأنه سبق لها أن تجاوزت مراحل عزلة سياسية مؤقتة، وهذا صحيح جزئيا. لكن الفارق اليوم أن التحول لا يأتي من خصومها التقليديين، بل من داخل الكتلة الغربية ذاتها، ومن دول كانت بالأمس القريب تدرج أي تضامن مع فلسطين في خانة "التحريض" وهذا ما يفسر انفعال المؤسسة الإسرائيلية، وتصعيدها غير المسبوق ضد الحكومات الأوروبية، حتى وصل الأمر إلى استدعاء سفراء واتهامهم بمعاداة السامية.

في المحصلة، يمكن القول إن إسرائيل تعيش اليوم نوعا من الحصار السياسي، وهو ذاك الذي لا يدوي، لكنه ينسف الأساس السياسي الذي قامت عليه. الاعتراف بدولة فلسطين لا يعني فقط منح الفلسطينيين علما وسفارة، بل يعني نزع ورقة "الضحية الوحيدة" من يد إسرائيل، وإعادة تعريف الخلل الرئيس في معادلة الصراع.

هل يعني هذا أننا على أعتاب حل؟ لا يمكن الجزم بإجابة، لكن المؤكد أن معادلة "إدارة الصراع" التي كانت تل أبيب تتفرد بتحديد شروطها، لم تعد قائمة، فهناك قوى جديدة ترسم الإطار، وسقف الحلول بات أكثر ارتفاعا مما تحتمله الحكومة الإسرائيلية الحالية، أو التي تليها.

وفي الواقع السياسي، فإن النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي لن يُحل غدا، لكنه لن يبقى أيضا على ما هو عليه. وإسرائيل التي لم تعتد أن تكون في موقع الدفاع عن شرعيتها، قد تجد نفسها قريبا مضطرة للقبول بما كانت ترفضه، لا بفعل الضغوط العسكرية، بل تحت وطأة الحراك السياسي المؤثر.

font change