أتابع على مدى الأيام الأخيرة النقاش والجدل الحاصل بين السوريين حول إمكانية التوصل إلى اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل على غرار اتفاق فك الاشتباك لعام 1974 والذي انتهى يوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 بعد انسحاب الجيش السوري من مواقعه وإعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي نهاية العمل بهذا الاتفاق.
لن أدخل بموقف أصحاب الرؤوس الحامية الذين يحملون فكر محور الممانعة حتى لو لم يكونوا "رسميا" منتمين لهذا المحور، فهؤلاء لا يتعظون ولا يتعلمون ولا يشاهدون ما يحصل في غزة اليوم، فقط يريدون قرع طبول الحرب وإطلاق شعارات بطولية، ويعتاشون على الدماء الذين يظنون أنها وحدها تعطيهم الشرعية للوصول إلى الحكم.
ولكن أغلب باقي المواقف تدرك وتعي وضع سوريا الهش اليوم، وعدم قدرتها ليس فقط على المواجهة بل أيضا على الصمود أمام عنجهية نتنياهو وحكومته.
لم تقتصر الانتهاكات الإسرائيلية على التوغل داخل الأراضي السورية، ولا على القصف شبه المستمر لمواقع الجيش السوري السابق وما بقي من أسلحة وعتاد، بل إن التدخل الأخطر كان بالتدخل في الشؤون الداخلية لدولة تضع حجر الأساس لبنيتها بعد عقود من الدمار والحروب والقمع في زمن "البعث" والأسدين وقبلهما زمن الوحدة مع مصر، وجدت إسرائيل خواصر رخوة كثيرة للأسف داخل المجتمع السوري فاستغلتها لأبعد مدى، استعملت ورقة المكونات و"الأقليات" لتحسن من شروطها ولتزيد من صعوبة موقف الحكومة السورية، حتى وصل الأمر بها إلى قصف داخل دمشق وهو ما زاد من حدة الانقسام بين السوريين.
ينطلق اعتراض البعض من أن هذه السلطة لا تملك الشرعية لتفاوض العدو ولا لتوقيع اتفاقيات معه، ممكن، رغم أن المطروح اليوم حسب كلام الرئيس أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني هو العودة إلى اتفاق عام 1974 مع بعض التعديلات، ولكن السؤال هل تستطيع سوريا أساساً أن تصل الى مرحلة بناء دولة مؤسسات وخوض انتخابات والعامل الإسرائيلي موجود إن كان عسكرياً أو سياسياً من خلال تدخلها المستمر بالأمرين، حاولت أن أستمزح آراء المعترضين على هذه الجزئية ولم أحصل على جواب كاف، وكأننا ندور في حلقة مفرغة.
آخرون لا يعترضون على التفاوض بل على شكله، بعضهم يرى أن الاتفاق الأمني يجب أن يفاوض عليه أمنيون وعسكريون لا أعلى منصب دبلوماسي في سوريا، بينما البعض الآخر يرى أنه كان يجب الاستعانة بأصحاب خبرات في هذا المجال من عسكريين وسياسيين وحقوقيين، وهم محقون، فما زالت الحكومة في كثير من الأمور الحساسة منغلقة على نفسها.
رغم حاجة سوريا لاتفاق أمني يكبح هذا الجموح الإسرائيلي المنفلت من كل القيود، فإن على الحكومة أن تحذر من الاستعجال في توقيع اتفاق يعطي إسرائيل أدوات للتأثير السياسي في الداخل السوري
سوريا في وضع لا يشبه أي مكان آخر، الحجر مدمر ونحو خمسين في المئة من الشعب ما زالوا خارج بيوتهم بين نازحين ولاجئين، الانقسام السوري الداخلي الحاد لا يبدو أن هناك معالجات حقيقية قد بدأت لردمه، قانون قيصر الذي عُلق ولم يُلغ تستغله إسرائيل والجهات الداعمة لها ليبقى مسلطا على رقاب السوريين وبالتالي لا تحسن ملموسا في حياة المواطنين اقتصاديا ولا إعادة إعمار قبل إلغاء "قيصر"، التدخل الخارجي الذي لا يقتصر على إسرائيل فحسب، هناك إيران التي ما زالت تحاول زعزعة الاستقرار الهش أساسا لتجد موطئ قدم لها ولـ"حزب الله" في سوريا، خطر "داعش" ما زال ماثلا أمامنا أيضا.
هل يعني هذا أن على السوريين الاستسلام؟ لا. ولكن أقصى درجات الواقعية مطلوبة، كما الحذر، وللتذكير نتنياهو الذي يقتل يوميا مئات الفلسطينيين في غزة والذي يقصف لبنان واليمن ووصل به الأمر إلى استهداف الوسيط وقصف الدوحة، حتى اليوم لا بوادر حتى لإدانة ما يرتكبه من جرائم بسبب الدعم الأميركي لإسرائيل اللتين- حتى وإن اختلفا في بعض التفاصيل- يبقى التحالف بينهما ثابتا.
ورغم حاجة سوريا لاتفاق أمني يكبح هذا الجموح الإسرائيلي المنفلت من كل القيود، فإن على الحكومة أن تحذر من الاستعجال في توقيع اتفاق يعطي إسرائيل أدوات للتأثير السياسي في الداخل السوري ويسمح لها بأن تتحول إلى ما يشبه الوصي على مستقبل الجنوب السوري.