في الذكرى الأولى لشن إسرائيل حربها على لبنان، ينتظر سكان هذا البلد هجوما واسعا لوّح به الموفد الأميركي توم باراك ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
فبعد أسبوع من عملية "البيجر" في 17 سبتمبر/أيلول، انقضت الطائرات الإسرائيلية على عشرات البلدات الممتدة من الحدود الجنوبية إلى شمال البقاع مرورا بالضاحية الجنوبية. الأرقام الرسمية اللبنانية عن ضحايا شهرين من القصف الجوي والبري الذي لم يسبق له مثيل حتى في أيام اجتياح سنة 1982، تتحدث عن أكثر من أربعة آلاف ضحية، فيما أعلن الأمين العام لـ"حزب الله" في خطاب حديث له أن الجماعة المسلحة فقدت أكثر من خمسة آلاف قتيل. التقديرات غير الرسمية تقول إن "الحزب" فقد ما بين 10 و11 ألف مقاتل بعضهم لا زال مفقودا، فيما هناك عشرات الآلاف من الجرحى من بينهم أربعة آلاف في عملية "البيجر" وحدها. الخسائر المادية تتجاوز عشرات مليارات الدولارات ناهيك عن القضاء على أية آمال بقرب التعافي من الانهيار الاقتصادي الذي بدأ في 2019.
قرى وشوارع سويت بالأرض. آلاف ممن هربوا من منازلهم ليلة 23–24 سبتمبر/أيلول 2024، لم يعودوا إلى ديارهم التي دمرت. مستشفيات ومدارس ومؤسسات تجارية ومعالم تاريخية اختفت من الوجود وتبخرت معها مشاريع وطموحات وأحلام أناس عاديين كانوا يأملون في غد أفضل.
مرت سنة منذ تحولت "حرب الإسناد" التي باشرها "حزب الله" للتخفيف من ضغط الهجوم الإسرائيلي على غزة انتقاما من "طوفان الأقصى"، تحولت إلى كرة ثلج جرفت معها البنية العسكرية والأمنية والمالية لـ"الحزب" وأظهرت انكشافه وهزال ادعاءاته وعجرفة زعمائه. فقد قتلت الصواريخ الإسرائيلية أصحاب الرتب العليا والدنيا في "الحزب"، ولم يعترف هؤلاء بأن الخرق الاستخباري الإسرائيلي قد بلغ كل دوائرهم وغرف عملياتهم ومخازن أسلحتهم وعقول المخططين. هذا الخرق ظهر لاحقا وعلى نحو مطابق في تصفية قيادة الجيش و"الحرس الثوري" الإيرانيين وحكومة الحوثيين في اليمن ومحاولة القضاء على الوفد المفاوض من "حماس" في العاصمة القطرية. وكأن مرضا مشتركا قد أصاب هؤلاء جميعا وحال دون أن يروا حجم الخطر الماثل أمامهم بل تمسكوا برطانتهم المعتادة وتحدياتهم التي انقلبت وبالا عليهم.
هذه الخلفية ينبغي أن تبقى ماثلة في الأذهان مع عودة الإسرائيليين إلى التلويح بجولة ثانية من الحرب على لبنان الذي "لم يفعل سوى إطلاق الكلام" على ما قال توم باراك في مسألة نزع سلاح "حزب الله" الذي أعلن مرارا أنه لن يسلم سلاحه وليكن ما يكون.
لبنان فقد جزءا من أراضيه التي احتلتها إسرائيل في شهري القتال بينها وبين عناصر "حزب الله" وقد لا يستعيدها في المستقبل المنظور
الجانب الآخر لمشهد لبنان بعد سنة على حرب إسرائيل عليه، أن أجواء التفاؤل بإصلاح جدي والتي سادت بعد انتخاب جوزيف عون رئيسا للجمهورية واختيار نواف سلام رئيسا لمجلس الوزراء، قد اختفت تقريبا بعد ظهور عمق التحالف بين الفساد المانع لمعالجة الكوارث المتراكمة من العهود السابقة- مثل إنجاز التحقيق في تفجير مرفأ بيروت أو تسوية أوضاع القطاع المصرفي والودائع المنهوبة- وبين أقطاب المنظومة السياسية التي تريد الإبقاء على سلاح "حزب الله" بذريعة تجنب الحرب الأهلية.
والحال أن السياسيين اللبنانيين يرفعون الرهان على قدرتهم على التهرب من المطالب الخارجية التي تتكرر في كل زيارة للمبعوثين الأميركيين، إلى مستويات تفوق كفاءة السياسيين هؤلاء الذين يتجاهلون أن فرص لبنان في إعادة الإعمار، سواء من خلال مساعدات خارجية أو عبر انطلاق اقتصاد نشط يتيح فرص عمل ويقلص التوتر الاجتماعي، معدومة ما لم يحسم البلد قراره في تبني واحد من الخيارات السيئة المطروحة أمامه: الخضوع للمطالب الإسرائيلية كما اقترح باراك أو العودة إلى الحرب كما يلوح في الأفق أو الاستمرار في حالة الاستنقاع مع ما تنطوي عليه من مجازفة سياسية واقتصادية كبيرة.
ولبنان فقد جزءا من أراضيه التي احتلتها إسرائيل في شهري القتال بينها وبين عناصر "حزب الله" وقد لا يستعيدها في المستقبل المنظور. كما يعاني من خسارة أي دور أو وظيفة إقليمية ومن عزلة سياسية لم تتقلص على الرغم من الوعود البراقة التي أُطلقت قبل شهور. لكنه، مع ذلك، يبقى أسير تناقضاته الداخلية التي تمنعه من السير في نزع السلاح وفي الإصلاح السياسي والاقتصادي وهما مسار واحد مهما حاول محللو الفضائيات الادعاء عكس ذلك.
وحتى الساعة، يمثل الانقسام الداخلي حول تسليم سلاح "حزب الله" وكذلك حول الإصلاح الاقتصادي والسياسي عاملا رئيسا في إبقاء سيف التهديدات مسلطا على رقاب الجميع. وفي الوقت الذي يصر فيه السياسيون على أنهم ليسوا من دعاة الانتحار، فإنهم يدفعون لبنان في هذا الطريق مرة أخرى.