احتدام سباق المفاعلات النووية... على القمر

صراع النفوذ بين القوى الكبرى

Ewan White
Ewan White
سباق الطاقة النووية على سطح القمر

احتدام سباق المفاعلات النووية... على القمر

اندلعت شرارة سباق فضائي جديد نحو القمر، يتجاوز صراع القوى العظمى الذي ساد في القرن الماضي، بعد أن كشفت الولايات المتحدة، من خلال وكالة "ناسا"، عن خططها لبناء مفاعل نووي صغير على سطح القمر، وهي خطوة استراتيجية تدمج الأهداف العلمية بالدوافع الجيوسياسية.

يهدف هذا المفاعل إلى توفير مصدر طاقة مستقر وموثوق به للبعثات المأهولة المستقبلية، مما يمهد الطريق لإقامة وجود بشري دائم على القمر. وفي الوقت نفسه، تحمل هذه المبادرة رسالة سياسية واضحة ومباشرة، أن واشنطن لن تسمح للصين بتشكيل مستقبل القمر وحدها، بل ستظل فاعلا رئيسا في تحديد القواعد وسبل الاستكشاف الفضائي. وبهذا، لم يعد السباق إلى القمر مجرد منافسة تكنولوجية، بل أصبح ساحة صراع معقدة تتداخل فيها الأجندات العلمية مع الاعتبارات الاستراتيجية للدول الكبرى.

وتسرع الصين خطواتها نحو القمر، حيث تخطط لإنزال رواد فضاء في حلول عام 2030 وإقامة قاعدة دائمة هناك، في خطوة قد تُحدث تحولا كبيرا في ميزان القوى الفضائية. ويثير هذا الطموح قلقا عميقا في واشنطن، فقد حذر مشرعون أميركيون من أن أي تأخير في الاستجابة قد يسمح لبكين بفرض سيطرتها على القمر بشكل رمزي، عبر وضع لافتة "ممنوع الدخول" على موارده الحيوية.

وقد تحول السباق إلى القمر من مجرد استكشاف علمي إلى منافسة حاسمة على النفوذ. فالدولة التي تنجح في بناء البنية التحتية أولا، وتسيطر على الموارد القمرية الثمينة مثل الهيليوم-3 والمعادن النادرة، ستكون هي التي تحدد قواعد اللعبة المستقبلية. وفي الوقت الذي تدعم فيه الحكومة الأميركية الشركات الخاصة في تطوير تكنولوجيا الفضاء، تواصل الصين توسيع حضورها الفضائي بقدرات مزدوجة الاستخدام، تجمع بين المدني والعسكري.

مفاعل نووي على سطح القمر

تعود البشرية اليوم إلى القمر، لكن هذه المرة لا تحركها دوافع رمزية أو سياسية كما كانت الحال في حقبة الستينات. لم يعد سباق الفضاء مجرد تنافس على غرس علم فوق تراب القمر، بل تحول إلى سباق على بناء وجود مستدام وحقيقي، وعلى إقامة قواعد تضمن استمرارية البشرية في الفضاء.

وتجسدت هذه النقلة الجذرية في أغسطس/آب الماضي، عندما أعلن المدير المؤقت لوكالة "ناسا"، شون دافي، خطة طموحة وغير مسبوقة لتسريع وتيرة مشروع مفاعل نووي مصغر، ليصبح جاهزا للعمل على سطح القمر قبل نهاية هذا العقد. تأتي هذه الخطوة لتمنح مشروع "أرتميس" جدولا زمنيا واضحا وحاسما، في وقت تواجه فيه "ناسا" تحديات كبيرة تتعلق بالميزانية والأولويات.

لكن ما يميز المفاعل النووي هو الفائدة الاستراتيجية التي يقدمها. فبينما تعاني الطاقة الشمسية من مشكلة الليل القمري الطويل الذي يستمر أسبوعين كاملين، فإن المفاعل النووي قادر على توفير كهرباء مستقرة لعقد كامل تقريبا من الزمن. هذه الاستمرارية تجعل من الممكن التفكير في مهام جديدة كليا، مثل إنشاء مستوطنات دائمة، وتشغيل أنشطة اقتصادية تشمل التعدين والسياحة، بالإضافة إلى دعم التجارب العلمية الكبرى.

أحد أبرز التحديات التقنية التي يواجهها مشروع المفاعل النووي القمري يتمثل في الغبار القمري، المعروف باسم "الريغولث".

يعد هذا الإعلان نقطة تحوّل محورية، فهو ليس مجرد تفصيل تقني عابر، بل يمثل أول مبادرة رئيسة يطلقها دافي منذ توليه منصبه، في إشارة واضحة إلى أن الولايات المتحدة لن تترك الساحة الفضائية مفتوحة أمام منافسيها. تتضمن الخطة دعوة مفتوحة لشركات الفضاء الأميركية لتقديم مقترحاتها خلال فترة زمنية قصيرة، مع تشكيل فريق قيادة متخصص لمتابعة المشروع بشكل مباشر بهدف نقل مشروع المفاعل من مجرد فكرة نظرية في الأبحاث إلى خطة تنفيذية ملموسة، تشكل حجر الزاوية في عودة أميركا القوية إلى القمر ضمن برنامجها الرائد "أرتميس".

صمم المفاعل النووي الذي تخطط "ناسا" لإرساله إلى القمر ليكون صغير الحجم وقوي الأداء. يستهدف إنتاج طاقة كهربائية تصل إلى 100 كيلوواط، وهي قدرة كافية لتشغيل قاعدة مأهولة بالكامل، بما في ذلك أنظمة دعم الحياة، والاتصالات، والأجهزة العلمية، والروبوتات. يعمل المفاعل على مبدأ الانشطار النووي لتوليد الحرارة، التي تحول إلى كهرباء عبر نظام "برايتون" المغلق، بينما تقوم المشعات الحرارية الضخمة بعملية التبريد اللازمة في ظل غياب الهواء والماء على القمر.

الغبار القمري

وحدد وزن المفاعل الأقصى بـ 15 طنا لضمان إمكان إطلاقه على متن صواريخ عملاقة من إنتاج شركات مثل "سبيس إكس" و"بلو أوريجن". يتطلب هذا المشروع أيضا تطوير مركبة هبوط متطورة، قادرة على إنزال هذه الحمولة الثقيلة بأمان على سطح القمر، وهو ما يشكل تحديا تقنيا غير مسبوق. يقارن هذا الوزن الضخم بالحمولات السابقة التي وصلت إلى القمر، والتي لم تتجاوز أجزاء بسيطة من هذا الرقم ويفترض أن يعمل المفاعل بصورة شبه آلية، من دون الحاجة إلى صيانة معقدة، ولفترة قد تصل إلى عشر سنوات كاملة.

أحد أبرز التحديات التقنية التي يواجهها مشروع المفاعل النووي القمري يتمثل في الغبار القمري، المعروف باسم "الريغولث". هذا الغبار ليس مجرد طبقة سطحية عادية، بل يمتاز بكونه شديد النعومة ودقيق الحبيبات، وفي الوقت نفسه حاد الحواف ويلتصق بسهولة بالسطوح المعدنية. المفاعل يعتمد على مشعّات حرارية ضخمة لتبديد الحرارة الزائدة في غياب الهواء والماء، وأي تراكم لـ"الريغولث" على سطح هذه المشعّات سيؤدي مباشرة إلى تقليل كفاءتها في التبريد، مما يرفع خطر ارتفاع درجة حرارة المفاعل ويهدد سلامة تشغيله.

لمواجهة هذه المشكلة، يعمل المهندسون على تطوير حلول مبتكرة متعددة: طلاءات متقدمة مقاومة للغبار، أنظمة تنظيف ذاتية ذكية يمكنها إزالة الجزيئات الدقيقة بشكل مستمر، وتصاميم هندسية لمواقع تركيب المفاعل تراعي اتجاه الرياح القمرية وتضاريس السطح لتقليل تراكم الغبار. كما يُدرس إمكان استخدام الحواجز المادية أو المجالات الكهربائية لتغيير مسار الغبار بعيدا من المناطق الحساسة.

Ewan White
سباق الطاقة النووية على سطح القمر

لكن التحديات التقنية ليست سوى جانب واحد من الصورة. فالمكان الذي يُنصب فيه المفاعل سيصبح عمليا منطقة تشغيل محمية، إذ لا يمكن أي بعثة قمرية أخرى الاقتراب منه دون تنسيق مسبق، ليس فقط لأسباب تتعلق بالسلامة والإشعاع، بل أيضا لأبعاد سياسية واضحة. الدولة التي تنجح في بناء المفاعل أولا ستؤسس لنفسها منطقة نفوذ غير معلنة على القمر، تجبر الآخرين على الاعتراف بها وتجنب العمل في محيطها. هنا يتضح أن السباق القمري لم يعد مجرد تشغيل مصدر للطاقة، بل محاولة لترسيخ أول حدود فعلية للبشرية خارج كوكب الأرض.

تفاصيل قانونية

رغم أن معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967 وضعت إطارا عاما للتعامل مع القمر وبقية الأجرام السماوية، إلا أنها لم تتخيل أن يصل البشر إلى مرحلة بناء مفاعلات نووية على سطحه. نصوص المعاهدة سمحت للدول بإقامة قواعد ومنشآت لأغراض سلمية، لكنها منعت أي وجود عسكري دائم أو تحصينات. هذا الفاصل الرمادي يفتح الباب أمام مشاريع مثل المفاعل النووي القمري، الذي يمكن تقديمه ضمن خانة الاستخدام السلمي، لكنه في الوقت نفسه يمنح الدولة المنفذة ميزة استراتيجية وسيطرة فعلية على جزء من القمر.

من يسبق في بناء المفاعل يستطيع أن يفرض نمط الحركة حوله: من يمكنه الدخول، ومتى، وتحت أي شروط. وهنا يتحول الاستثمار النووي إلى وسيلة لإعادة تفسير القانون الدولي نفسه

وتبدأ المشكلة مع التفاصيل القانونية المعقدة. فالمادة التاسعة من معاهدة الفضاء الخارجي تلزم أي دولة تخطط لنشاط قد يتسبب بتداخل ضار مع بعثات أخرى، إجراء مشاورات مسبقة معها. عمليا، هذا يمنح الدولة التي تشغل مفاعلا نوويا على القمر الحق في مطالبة الدول الأخرى بعدم الاقتراب من محيط المفاعل إلا بعد التنسيق، تحت ذريعة ضمان السلامة أو تجنب تعطيل البعثة.

أما المادة الثانية عشرة، فتنص على أن المنشآت الفضائية، بما فيها المفاعلات، يجب أن تكون مفتوحة للزيارات الدولية على أساس المعاملة بالمثل، لكن بشرط الإبلاغ المسبق وترتيب الزيارة بما لا يعرقل سير المهمة. وبذلك، ورغم أن المعاهدة لا تمنح حقا حصريا في المنع، إلا أنها تترك مساحة واسعة لتفسيرات عملية تمكن الدولة المالكة من التحكم في الوصول إلى منشآتها القمرية بشكل فعال.

إلى جانب ذلك، أصدرت الولايات المتحدة في عام 2019 مذكرة رئاسية وقعها الرئيس ترمب تحدد كيفية ترخيص المفاعلات النووية في الفضاء، لكنها لم تختبر بعد من خلال إطلاق فعلي. كما أن مسألة المسؤولية والتأمين تمثل عائقا رئيسا، إذ تعتمد الصناعة النووية على الأرض على قانون برايس-أندرسون الذي يحد من المسؤولية لتشجيع الاستثمار، ومن دون إطار مشابه في الفضاء، سيكون من الصعب على الشركات الخاصة الحصول على تأمين يغطي مشاريع بهذا الحجم أو جذب رؤوس الأموال اللازمة لها.

هذا النص القانوني البسيط يمنح عمليا أداة نفوذ ضخمة. فمن يسبق في بناء المفاعل يستطيع أن يفرض نمط الحركة حوله، من يمكنه الدخول، ومتى، وتحت أي شروط. وهنا يتحول الاستثمار النووي إلى وسيلة لإعادة تفسير القانون الدولي نفسه. فبدلا من أن يبقى القمر ملكا مشتركا للبشرية، قد يتحول إلى ساحة تتقاسم فيها الدول مناطق نفوذ، مستخدمة شعار الأمن والسلامة كغطاء قانوني. وهنا يتضح جوهر السباق الحالي: لم يعد فقط حول من يضع قدمه أولا على القمر، بل حول من يبني البنية التحتية التي تجبر الآخرين على الاعتراف بوجوده وامتيازاته.

ورغم الطموحات الكبيرة لبناء مفاعل نووي على سطح القمر كجزء من سباق التفوق مع الصين وروسيا، يواجه مشروع "ناسا" تحديات ضخمة على المستوى التشغيلي والمالي. محطة الفضاء الدولية الحالية تضغط على موارد الوكالة، فهي تعاني من تسريبات وأعطال متكررة دفعت "ناسا" للتعهد بإسقاطها في المحيط في حلول عام 2031، مع وعود ببناء بديل تجاري في 2029. ومع ذلك، لا تزال الرؤية حول طبيعة هذه المحطة الجديدة غامضة: هل ستكون مجرد منصة علمية للأبحاث، أم مشروعا اقتصاديا أوسع يشمل السياحة الفضائية واستثمارات الشركات الخاصة؟ هذا الغموض يربك المستثمرين ويضع الشركات في حالة ترقب، خصوصا أن تكلفة بناء محطة جديدة تُقدَّر بمليارات الدولارات، في حين لا توفر "ناسا" سوى مئات الملايين سنويا، تاركة فجوة تمويلية ضخمة يصعب جسرها دون شراكات استراتيجية واسعة.

عقبة التمويل

تبقى العقبة الكبرى أمام مشروع المفاعل النووي على القمر هي التمويل. فقد اقترح البيت الأبيض في موازنة عام 2026 خفضا غير مسبوق يقارب 25% من ميزانية "ناسا" في عام واحد، وهو أكبر تقليص نسبي منذ نهاية برنامج أبولو. هذا سيجعل ميزانية الوكالة الأدنى منذ عام 1961، مما يثير مخاوف جدية حول قدرة "ناسا" على تنفيذ مهام طموحة جديدة، لا سيما مشروع المفاعل النووي الذي يتطلب استثمارات طويلة الأمد وبنية تحتية متقدمة ومعقدة.

وستشمل تداعيات هذه السياسة المالية تقليص قوة العمل المدنية إلى أدنى مستوياتها منذ الستينات، وإلغاء 19 مهمة علمية نشطة، إلى جانب استقطاع نحو نصف ميزانية مديرية العلوم. هذا يعني تعطيل أبحاث أساسية كان من الممكن أن تدعم تطوير المفاعل، بما في ذلك تصميم مواد مقاومة للغبار القمري، وأنظمة تبريد متقدمة، وبرمجيات تحكم شبه آلية قادرة على العمل في بيئة القمر القاسية دون تدخل بشري.

تحافظ روسيا على حضورها القوي في هذا المسار رغم العقوبات والأزمات الاقتصادية، معتبرة الفضاء وسيلة لإثبات مكانتها كقوة عظمى

أما من الناحية التقنية، فإن المفاعل النووي نفسه يفرض تحديات غير مسبوقة. فهو يحتاج إلى العمل بصورة شبه آلية لمدة تصل إلى عشر سنوات دون صيانة بشرية، في بيئة تحيط بها أخطار كبيرة، بدءا من أشعة الشمس المكثفة ودرجات الحرارة المتطرفة، وصولا إلى غبار "الريغولث" القمري الذي يتميز بحدة حوافه وقدرته العالية على الالتصاق، مما يهدد كفاءة أنظمة التبريد والمشعات، ويعرض المفاعل لأعطال خطيرة يمكن أن تعطل المهمة بالكامل.

تتطلب معالجة هذه المشكلات ابتكارات مكلفة في تصميم المواد، أنظمة الحماية، والبرمجيات الذكية، وهي جميعها مرهونة بميزانيات مستقرة واستثمارات ضخمة.

وبذلك، يصبح مستقبل المفاعل النووي القمري مرتبطا بالقدرة الهندسية والعلمية لوكالة "ناسا"، والقرارات السياسية والاقتصادية في واشنطن. فإذا استمرت الخفوضات المقترحة، فقد تضطر الوكالة إلى الاعتماد بشكل أكبر على القطاع الخاص أو الدخول في شراكات دولية، مما يثير تساؤلات حول الأمن القومي الأميركي في سباق الفضاء مع الصين وروسيا.

السباق الدولي هو المحرك الأساس

تفرض الصين نفسها في قلب السباق إلى القمر كأكبر منافس للولايات المتحدة. فقد استثمرت بكين خلال العقد الماضي مليارات الدولارات في برنامجها الفضائي، ونفذت سلسلة من المهمات الناجحة ضمن برنامج "تشانغ آه"، بما في ذلك إرسال مركبات هبوط لجمع عينات من التربة القمرية وتحليلها. تهدف الصين بشكل معلن إلى بناء قاعدة أبحاث علمية في القطب الجنوبي للقمر في حلول ثلاثينات هذا القرن، وهي المنطقة الغنية بالجليد المائي الضروري لدعم الحياة وتوليد الوقود. ويتيح وجود مفاعل نووي في هذه القاعدة تشغيلها بشكل دائم، كما يمنح الصين قدرة غير مباشرة على فرض أنماط الحركة والبحث العلمي حول منشآتها، مما يجعل القمر ساحة نفوذ استراتيجي قبل أن يكون مجرد موقع علمي.

NASA
لم يتمكن رواد فضاء أبولو الذين وصلوا إلى القمر من البقاء إلا لبضعة أيام

تدير الصين مشروع المحطة القمرية الدولية (ILRS) كمبادرة رسمية للتعاون الدولي منذ عام 2017، لتجسيد طموحها في تحويل القمر إلى منصة علمية عالمية تحت قيادتها. وقد وقعت أكثر من أربعين مؤسسة من مختلف دول العالم اتفاقيات تعاون مع بكين، مما يعكس رغبتها في توسيع نفوذها العلمي والسياسي على الساحة القمرية. وينفذ المشروع على مرحلتين: الأولى تشمل بناء منشأة قاعدية في القطب الجنوبي في 2035، والثانية إنشاء شبكة مترابطة تغطي القطب والجانب البعيد وخط الاستواء في 2050. وقد صُممت المحطة لتكون قابلة للتوسع والصيانة والعمل آليا لفترات طويلة مع تدخل بشري محدود، مما يجعلها ركيزة استراتيجية في سباق الهيمنة الفضائية.

تحافظ روسيا على حضورها القوي في هذا المسار رغم العقوبات والأزمات الاقتصادية، معتبرة الفضاء وسيلة لإثبات مكانتها كقوة عظمى. وتشارك روسيا بشكل رئيس في مشروع ILRS، حيث تقدم خبرتها الطويلة في التكنولوجيا النووية لدعم إنشاء مصادر طاقة مستقلة على القمر، مما يعزز القدرة الصينية على التحكم في القطب الجنوبي. كما تصعد الهند بسرعة بعد نجاح مهمة "تشاندرايان-3" في الهبوط على القطب الجنوبي، وتسعى لتثبيت صورتها كقوة تكنولوجية صاعدة. وتفتح مشاركتها في اتفاقية أرتميس مع الولايات المتحدة وأوروبا المجال أمام شراكات جديدة، مما قد يدفعها الى التنافس في مجال الطاقة القمرية والبنية التحتية الفضائية.

تحرك أوروبا، ممثلة بوكالة الفضاء الأوروبية، خطوات أكثر حذرا لكنها مستمرة لضمان وجود لها في رسم مستقبل القمر. وتسعى الوكالة الأوروبية عبر مبادرات مثل قرية القمر ومشاريع مثل SELENE الإيطالية إلى إنشاء محور طاقة قمري يعتمد على المفاعلات السطحية الصغيرة أو الطاقة الشمسية المتقدمة. ويهدف هذا التوجه إلى ضمان موطئ قدم لأوروبا على الطاولة عند إعادة رسم خرائط النفوذ الفضائي، دون الانخراط في سباق مباشر مع الصين والولايات المتحدة وروسيا.

تعكس هذه الصورة بوضوح أن سباق المفاعلات النووية على القمر لم يعد مشروعا علميا بحتا، بل أصبح أداة استراتيجية تعكس موازين القوة بين القوى الكبرى. وتسعى الولايات المتحدة للحفاظ على ريادتها في مواجهة صعود صيني متسارع، فيما توظف بكين مشروع المحطة القمرية الدولية كوسيلة لفرض قيادتها العلمية والسياسية على الفضاء. وترى روسيا في الفضاء ساحة لإثبات أنها لا تزال قوة عظمى، بينما تتحرك الهند وأوروبا لتأمين موقع لهما في النظام الفضائي الناشئ، كل وفق إمكاناته وتحالفاته الاستراتيجية.

تفرض التحديات القانونية نفسها كإحدى أهم العقبات في هذا السباق، فمعاهدة الفضاء الخارجي التي وُضعت قبل أكثر من خمسين عاما، تبدو عاجزة اليوم عن استيعاب طبيعة هذا السباق، إذ لم تتخيل وجود مفاعلات نووية ومحطات دائمة على سطح القمر. ويخلق هذا الفراغ القانوني مساحة لصراعات تفسيرية تمنح الدول المالكة للتكنولوجيا النووية الحق الضمني في تقييد الحركة والأنشطة العلمية في محيط منشآتها، تحت ذريعة الأمن والسلامة.

تحوّل المفاعل النووي القمري من مجرد مصدر للطاقة إلى أداة لإعادة تشكيل قواعد اللعبة الفضائية. فمن ينجح في بنائه وتشغيله أولا لن يحصد فقط تفوقا تكنولوجيا، بل سيكتسب أيضا نفوذا سياسيا يمكنه من تحديد خريطة الوصول إلى القمر لعقود مقبلة.

font change