توم بارّاك و"الجرح النرجسي" العربي

توم بارّاك و"الجرح النرجسي" العربي

استمع إلى المقال دقيقة

لم يأت الموفد الأميركي توم بارّاك بجديد عندما وصف شعوب المنطقة بالقبائل ونفى عن كياناتها السياسية صفة "الدولة"، وقال ما يقوله كثر من سكان المشرق عن أن اتفاقية "سايكس–بيكو" أنشأت دولا استنادا إلى تقسيم أقرب إلى الاعتباط بين موظفين صغيرين فرنسي وبريطاني.

يصح الذهاب في تشخيص بارّاك إلى الحد الذي نربط فيه بين البنية الاجتماعية المفوتة والتخلف السياسي والاقتصادي الذي لا يحتاج إلى "خبراء أجانب" من نوع الدبلوماسي الأميركي أو غيره لوصف الشرق الأوسط الذي "يبدأ بالفرد ثم العائلة ثم القرية ثم القبيلة والمجتمع، والدين ليتكون أخيرا مفهوم الدولة"، ذاك أن كتّاب هذه المنطقة لاحظوا المعضلات التي تتردى فيها مجتمعاتهم منذ وقت مبكر يحدده البعض بوصول الحملة الفرنسية إلى مصر في 1798 عندما بدأت المقارنات بين ما كان عليه الفرنسيون من تفوق تجلى أولا في التنظيم العسكري وما كان عليه المماليك الذين سادوا في البلاد حينها.

أسئلة من نوع "لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟" جاءت على ألسنة وعلى أوراق كتّاب ظهروا منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر وربما يكون الأمير شكيب أرسلان أشهرهم ومؤَلفه "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟" الذي لم يبخل فيه بالصفات السلبية على المجتمعات العربية والمسلمة في سياق تحديده أسباب التأخر. بل يمكن القول إن قسما كبيرا من الكتابات التي صدرت في عصر النهضة (وانتهى بوصول الديكتاتوريات العسكرية منتصف القرن العشرين) قد خصص لرصد أحوال البلدان العربية ونقدها وإظهار ما تلحقه بالجماعات والأفراد من أضرار.

أبعد من ذلك، ثمة لائحة طويلة من المؤلفات التي يتوزع كتّابها على الكثير من البلدان العربية وعلى مختلف المدارس الفكرية والسياسية، تُجمع على انقسام سكان الدول العربية إلى فئات يكاد يكون من المستحيل أن تتفق على شيء. هؤلاء الكتاب ينتمون إلى اليمين واليسار وإلى الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين. واتفاقهم على أن التخلف والفوات ليس مما يمكن إنكاره بل إن التباينات بينهم تبدأ في العلاج الذي يتعين اتباعه للخروج من دوامة التخلف والانقسامات الأهلية والجهوية والطائفية.

لقد آذى بارّاك الكبرياء العربية وقال ما لا يجوز أن يقوله دبلوماسي أجنبي حتى لو كان مضمون كلامه صحيحا، على أسوأ نحو ممكن، في الوقت الذي تنهار فيه سرديات المقاومة والصمود والتحرير

ما أزعج الكثير من المراقبين العرب هو أنهم سمعوا وصفا لحالتهم على لسان أميركي يتحدث باستخفاف عنهم وعن نشوء دولهم و"الخطوط المستقيمة" التي رسمها الموظفان: البريطاني مارك سايكس، والفرنسي فرنسوا بيكو، ومن جاء بعدهما من ضباط وموظفي الاحتلالين البريطاني والفرنسي لتقاسم إرث السلطنة العثمانية. 
لقد آذى بارّاك الكبرياء العربية وقال ما لا يجوز أن يقوله دبلوماسي أجنبي حتى لو كان مضمون كلامه صحيحا. وأعاد فتح "الجرح النرجسي" (بعبارة الراحل جورج طرابيشي) على أسوأ نحو ممكن في الوقت الذي تنهار فيه سرديات المقاومة والصمود والتحرير وتتقدم فيه "إسبرطة الجديدة" بقيادة بنيامين نتنياهو لتبسط سيطرتها على البر والبحر والجو وعلى الفضاء السيبراني وسط إصرار على إبادة الفلسطينيين جسديا بعدما دُمّر مجتمعهم في غزة وأصبح تاريخهم وحقوقهم وذاكرتهم في مهب الرياح. 
والحال أن الردود العربية على كلام بارّاك لم تحمل جديدا وكررت الكلام المعروف عن مسؤولية الغرب عن تخلفنا وعن دور الاستعمار في زرع البؤرة الاستيطانية الإسرائيلية في فلسطين لمنع اتحاد العرب وإنجاز نهضتهم العتيدة. وفي هذا إعادة صياغة لرطانة بعثية وناصرية مستمرة منذ أن بدد العرب فرصة تحقيق تنمية وإنشاء دول حديثة بين أربعينات وسبعينات القرن الماضي مفضلين عليها الانخراط في حروب أهلية وصراعات محلية من لبنان إلى جنوب السودان واليمن وصولا إلى الجولة الأخيرة من الاحتراب في طول الدول العربية وعرضها من ليبيا إلى العراق. 
ولئن صح أن الغرب و"الخارج" لعبا دورا في تعميق التناقضات المحلية وإضفاء قدر من العنف عليها وربطها بصراعات دولية سواء أثناء الحرب الباردة أو اليوم حيث تصعد محاور دولية جديدة، فإن على العرب التوقف عن إنكار مسؤوليتهم عن واقعهم وعن قصورهم في الإمساك به وإلقاء اللوم على أشخاص مثل توم بارّاك وغيره ممن يبخسون من قدرهم. الجواب على السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان عن التقدم والتأخر، موجود في كتابه وفي رسمه لقيم المجتمعات العربية وطبائع ناسها وشعوبها. وإذا أغضبنا ما قال الموفد الأميركي، فالمسؤولية عن كلامه ملقاة علينا أولا وآخرا. 

font change