تبدو العودة إلى تجارب إبداعية لها فرادتها في سوريا الثمانينات، ضرورة. لقد رحل بعض أهل تلك الحقبة الإبداعية بعد أن فتحوا النوافذ والأبواب من أجل حق العودة، ومن تبقى يحرس باب الأمل. تلك الفترة تعتبر إحدى ذرى الرقابة على حرية الإبداع والكلمة، إذ اتسم عهد الأسد الأب بالتأرجح بين الرقابة الناعمة والمتوحشة في محاولات تأديب وتكميم الأفواه والأقلام والحريات، وكانت المقولات المؤدلجة سمة المرحلة: "لا رقابة على الإبداع سوى رقابة الضمير"، الضمير المضمر هنا هو ضمير رجل الأمن، وإن غاب ناب عنه الرقيب الاجتماعي والذاتي.
حملت تلك السنوات حل النقابات وعنفا تجلى في الاعتقالات التي حاولت أن تطول ضمير البلاد، وكانت عسكرة المجتمع السوري وانحسار المجتمع المدني ومؤسساته المدنية المستقلة والاجتياح الإسرائيلي لبيروت وأثره في ضمير الشارع العربي، والحصار المضروب على الحرية، كل ذلك كان يمور في ضمير المبدع والمثقف أينما كان وفي المنافي وفي السجون، وفي عمق المجتمع كانت تمور موجات صارت لاحقا، في عام 2011، ثورة.
وما صرخة المسرحي السوري فواز الساجر في القصاصة التي عثر عليها في جيبه إبان رحيله 1988 سوى غيض من فيض من أجل فك ذلك الحصار الخانق عن الهوية الإبداعية والتعددية واتساع الرؤية: "إن عصرنا هذا هو عصر الضيق، عصرنا ضيق، وأكلنا ضيق، وشرابنا ضيق، وتفكيرنا ضيق، افتحوا الأبواب والنوافذ...".
لم يستطع النظام السياسي آنذاك وذراعه الاجتماعية، بكل جبروتهما، هزيمة زهرة بنفسج حزينة زرعتها الشاعرة السورية دعد حداد (1937-1991) في قصيدة، أو نافذة شرعتها على العتمة والحب والقمر. ربما استطاعت الحياة هزيمة الشاعرة لكنها لم تستطع هزيمة خبزها اليومي، الشعر.
عدت إلى شعر دعد حداد وقرأت من جديد أعمالها الكاملة. كان من الضروري أن أعود إليها عبر شعرها لأقرأه كأنني أقرأ جديدها، مرورا بالقصص الصغيرة القليلة ذاتها المحبة والمكرورة عنها.
هل كانت تحيا فعلا على هامش المشهد، متقشفة في علاقاتها وصداقاتها، ورفيقها الشعر؟ أم كان هذا خيار الشاعرة في موقفها الرافض للعسكرة والظلم؟ ألم يكن التقشف والوحدة والتهميش هي المشهد؟ هنا تتبدى قسوة التاريخ والغش في كتابة حكايات من يعلنون هزيمتهم التي ليست سوى موقفهم الأخلاقي من المنتصر.
هل كانت تحيا فعلا على هامش المشهد، متقشفة في علاقاتها وصداقاتها، ورفيقها الشعر؟ أم كان هذا خيار الشاعرة في موقفها الرافض للعسكرة والظلم؟
حين قرأت سابقا الأشعار التي استعرتها من الشاعر السوري الراحل بندر عبد الحميد، صديق تجربة دعد الشعرية، لم يتبد لي ما تبدى الآن. بدا لي في قراءتي الآن أنها لم تكن وحيدة، لم يكن لديها وقت للوحدة، أراها تجوب شوارع دمشق كتروبادور، تبحث في ذاتها عن الشعر، تعرف الشعر أيضا ربما، تترك قصيدة على باب المساء وتمضي حرة فليس الشعر لأحد.
إنها تزف للأصدقاء روعة الحياة طالما كان لديها كسرة خبز مجففة بالشمس والحرية. تحمل حصاد يومها على ظهرها وتعود إلى وحدتها، وفي ساعات متأخرة من الليل تسكب ما عاشت، تفجر الصمت، والأفكار والخيال والعواطف على قصاصات ورق، قصائد جمعت كلماتها من الحياة، وكانت تدون تاريخ كتابة القصيدة في آخر القصاصة.
ليست سوى وحدة المدينة مرآة الشاعرة. كانت تحتاج إلى مرآتها، الماء، هي ابنة المتوسط الآتية من مسقط رأسها في اللاذقية لتحيا في دمشق.
في سيرتها أحببت صداقتها مع الشاعر بندر عبد الحميد، الصداقة التي كسرت آنذاك نمطية الوصاية والذكورة والهيمنة. في أوائل السبعينات قدمها بندر إلى المشهد الشعري في دراسة نشرتها مجلة "الموقف الأدبي"، وكان يديرها القاص زكريا تامر.
وبعد رحيلها جمع كتبها والقصاصات، وكتب مقدمة أعمالها الكاملة التي صدرت عن "دار التكوين" 2018. انتقى للأعمال الكاملة عنوانا بديعا "أنا التي تبكي من شدة الشعر"، وهو سطر في قصيدة وقعت عليها دعد في الواحدة والنصف من ليل 17–18 مارس/آذار 1986 في ديوان "كسرة خبز تكفيني":
"أنا ابنة هذه الليلة المجنونة، ابنة وعيي وصديقي أنا، أنا أكثر الناس عتقا، أنا خمري في شراييني، أنا من تحمل الزهور إلى قبرها، وتبكي من شدة الشعر. أعلى حيائي تبنى القصور؟ أغمضوا عيونكم، سأمر وحيدة كحد الرمح حين هطول دموعكم".
عاشت بعيدة عن الأضواء، صوتها وشعرها وصخبها وحياتها اليومية، صديقها المطر يأتي إليها في الليل
هل الحياة هزمت الشاعرة أم هي من ذهب في المغامرة إلى حدود المطلق؟ إنها تطالب بأن يعطى الأطفال نصيبهم من الحليب والأغاني كي لا تهزمهم الحياة وهم في البداية.
أشار بندر عبد الحميد في مقدمته عنها في الأعمال الكاملة، إلى أنه كان هناك مزاح ثقيل في بعض القصائد. هل هي امرأة محاصرة، مجنونة، سعيدة، حزينة؟ لكنه اعتبر كل ذلك لا بد منه، في محاولات الخروج من النكسة في الأعماق، حين الخيال يملأ الفراغ في الواقع، وتلتصق الأعياد وتذوب في الحرب، والذهب يقتل الوردة، فتزداد أحزان الشجرة حزنا آخر.
من هنا ربما تبدأ الدعوة إلى العزلة كموقف شعري من كل هذا. كانت تصل النهار بالليل في عمر القصيدة. فالشعر هو النافذة التي غابت منها الشاعرة دعد حداد التي حلمت أن تجاور القمر الشاحب في سكون الطبيعة. عاشت بعيدة عن الأضواء، صوتها شعرها وصخبها وحياتها اليومية، صديقها المطر يأتي إليها في الليل "ونافذتها عود ثقاب، عود ثقاب مطفأ".
هل كانت سجينة الحياة أم إن الحياة آنذاك كانت هي السجينة؟ كتبت عن دمشق الحزينة الوحيدة عن قوس الزمان يسحرها ويغمر الزنزانة الوحشية وكتبت عن انعدام الحرية. إنما الشعر هو من وجد عالما من الجمال كي يصون كرامات المهمشين من أهل الأرض.
وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 1989، كتبت بحسب ما نقرأ في ديوانها "تصحيح خطأ الموت": "أما هو فكان يكتب الشعر فوق مقعد في الحديقة، ويتأمل القمر بعد الغروب، وحينما أصبح شابا، قتلته الحرب".