يقترب شهر ديسمبر/كانون الأول، عاد من عاد وغاب من غاب وبقي من بقي، ولا يزال الضمير يتأمل الصورة. صورة طبيب الأطفال الفلسطيني حسام أبو صفية وهو يسير على حطام مشفاه باتجاه الدبابات التي حطمت المشفى، الصورة التي التقطها المصور مهند المقيد في ديسمبر 2024.
يحمي الضمير الصورة، يريدها أن تبقى حية، أن لا تبلى في غبار الحرب وعبث النسيان. أن لا تصبح تاريخا نبكي عليه، بل حاضرا نعتز به، نبني عليه، ننصفه وينصفنا. فكيف يمكن أن تتقادم صورته وقد أجبر على أن يدير ظهره للدنيا فيها، لم يلتفت إلينا بعد، ولم تلتقط عينه الإنسانية على درب الجلجلة الصاعد نحو الدبابتين المركونتين فوق الدمار، عين الكاميرا.
لا تمحو هذه الصورة أية صورة أخرى في الخيال أو في الواقع، لها فرادتها في وحشية المعنى وفي الرمزية. لحظة مغمسة بالتراجيديا. نراه يبتعد في الضوء الرمادي المغبر، بين الأبنية المهدمة، مرتديا مئزره الأبيض. الدبابات تنتظره، تحدق فيه.
كيف تتقادم الصورة وكل هذا العنف لا يزال قابعا فيها. لعله يدندن في صدره أغنية كي يهدئ من روع الأطفال المرضى الذين لن يعود ويلقاهم ذلك اليوم. لعله يدندن كي يهدئ من روع الكون. لعله كان يبتسم للأمل الطفل في قلبه. وربما كان خائفا.
في تلك الثانية من تلك الظهيرة في شهر ديسمبر، في الثانية التي أشاح فيها الدكتور أبو صفية، طبيب الأطفال ومدير مشفى كمال عدوان بعينيه مرغما عن مرضاه، ذاهبا باتجاه الدبابتين الجاثمتين فوق صدر المشفى والبيوت المجاورة، فوق صدر الضوء، فوق أنفاس المدينة، في تلك اللحظة، حين التقطت كاميرا المصور الفلسطيني اللحظة، صارت الصورة أيقونة. أيقونة تحتضن أيقونة.
لم يبتعد الحصار في شهر نوفمبر/تشرين الثاني ولا شهر ديسمبر/كانون الأول ولا الذكرى. كيف بالإمكان أن تبتعد ولا يزال الطبيب مقيدا في الصورة. لذا، نعود إليها نحكي حكايتها، نروي بطولتها، نستمد منها قوتها نشاركها صمتها لعلها تتحرر لعله يتحرر من الأسر. ستبقى اللحظة طازجة حية غرائبية في الزمان المنغلق على زمانه.
يقترب شهر ديسمبر، وتقترب من جديد الذكرى التي لا تفارق أرضها، ولا تفارق المعنى.
هناك شخصيات لم نكن نعرفها قبل لحظة، قبل موقف إنساني، قبل حرب، وتصير أيقونة تحيا بيننا.
هذه الصورة تلخص الحياة بأسرها لنضال شعب ولنضال إنسان ينتمي إلى إنسانيته الناصعة. حسام أبو صفية ليس مقاتلا، ليس مسلحا، ليس عدوا لأحد، الطبيب لا يعادي. الطبيب له موقف جذري من الألم، من ظلم الألم
هذه الصورة تلخص الحياة بأسرها لنضال شعب ولنضال إنسان ينتمي إلى إنسانيته الناصعة. حسام أبو صفية ليس مقاتلا، ليس مسلحا، ليس عدوا لأحد، الطبيب لا يعادي. الطبيب له موقف جذري من الألم، من ظلم الألم.
في تلك الثانية التي أدار فيها ظهره رغما عنه، ذاهبا باتجاه الدبابات، صار حكاية شعبه. أي ألم أن لا يستطيع الإنسان اختيار وجهته، أن لا يستطيع أن يختار جهة النجاة، هو الذي اختار أن يبقى في خدمة المحتاجين حتى اللحظة الأخيرة من عمر المشفى.
طبيب تعتقله دبابتان معفرتان بالغبار، كأنما يخشى ضمير الكون الشفافية.
الصورة ثابتة، ونكاد نسمع خطواته الهادئة فيها، ونكاد نسمع زئير الدبابتين الرابضتين على صدر الصورة. هذا ليس اعتقالا هذا هدم للتاريخ ومحو للذاكرة. منذ تلك اللحظة التي التقط المصور فيها اللحظة الفريدة في اللحظة الفريدة، ونحن نراه يخطو بضع خطوات فوق أديم الأرض ويدخل بمئزره الأبيض في الدبابة وتعتقله الدبابة. إنه العنف المطبق المطلق.
هي حكاية أطباء غزة. اكتملت فيها عناصر التراجيديا الإنسانية الكونية التي تتخطي الزمان والجغرافيا. ولد حسام أبو صفية في مخيم جباليا شمال قطاع غزة. تمد الحكاية جذورها في الماضي وتمد جذورها في الغد. الغد الذي سيعود فيه وسيستطيع فيه أن يدير ظهره للدبابة.
منذ اختراع التصوير، مر تاريخ التصوير بمدارس ونظريات كثيرة، هناك من اعتبر التقاط صورة هو الاستيلاء على التجربة في لحظة التقاط الصورة، هو امتلاك صوتها، أو تحريره، أو هو باختصار أيديولوجيا.
وهناك من اعتبر المصور سائحا غير عادي وهو نوع موسع من الأنثروبولوجي الذي يزور السكان الأصليين ويعود بأخبارهم. فما بالك إذا كان المصور ذاته من السكان الأصليين وكانت عينه هي الواقع وما ينظر إليه هو موقفه من الحقيقة الفريدة العابرة قبل أن تفنى، والتي قد لا يكون متاحا أن تلتقطها عينه مرة أخرى. هذه الصورة لا تسجل اللحظة فحسب، بل تتخذ موقفا أخلاقيا من العالم.
يقترب ديسمبر، وتعود الصورة إلى لحظة التقاطها الأولى، لعل طبيبا يمشي على هذا الطريق يختار طريق النجاة هذه المرة: صورة العودة
اعتبر جون برغر أن الصورة خيار إنساني يحدث في موقف معين. والصورة ليست سوى نتاج قرار اتخذه فنان ما، بأن حدثا معينا قام بمشاهدته ويستحق التصوير. والوصف الأكثر شهرة للصورة هو أنها تذكار للغائب وأن ما تكشفه يثير ما تحجبه. أما ما كنت أبحث عنه من معنى يشفي عطشي لإنصاف هذه الصورة البطلة، فقد كنت أبحث عما يمكن أن أكتبه في هذا المصور الشاب الذي اقتحم شراسة الضوء وشراسة الدبابة والتقط صورة لمواطنه يرفعها كراية سلام ومحبة، كحقيقة في وجه الحقيقة، كنت أرجو أن أجد له إنصافا في مقولات من اشتغلوا على فن التصوير، حتى وجدته عند سوزان سونتاغ التي اعتبرت التصوير "بطولة الرؤية".
يقترب ديسمبر، وتعود الصورة إلى لحظة التقاطها الأولى، لعل طبيبا يمشي على هذا الطريق يختار طريق النجاة هذه المرة: صورة العودة.