طوفان الفرح

طوفان الفرح

استمع إلى المقال دقيقة

ترافقت الذكرى الأولى للتحرير واحتفالات السوريين في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2025 مع عرض فيديوهات للأسد الهارب، انتشرت كالنار في الهشيم قبيل الذكرى. فيديوهات صورت أثناء رحلة غريبة قام بها في سيارة خاصة مصحوبا بمستشارته الإعلامية ومستشار آخر، إلى منطقة الغوطة في عام 2018. الغوطة التي كان دمرها فوق أهلها وقصفها بالكيماوي في 2013.

وها هي الفيديوهات تحمل إلينا عنفا آخر لا قرار له، متعته في مشواره بمشاهدة ما اقترف. يستخف بآلام السوريين بتهجير أكثر من اثني عشر مليون إنسان، وقتل ما يقارب المليون واختفاء ما يدنو من مائتي ألف. الكره العبثي المترافق مع الجريمة.

إذا حاولنا التفكير من داخل رأسه، عن سبب شتمه أهل الغوطة الذي ورد في مقطع مصور، فالجواب البسيط هو أنهم يقضّون مضجعه. يضغط الراحلون والأحياء على عقله. فيعلن في الفيديو كرهه هذا، بعد أن كان قطع منذ عام 2011 شوطا واسعا في العنف الفعلي الثقيل، يفضفض لمستشاريه في السيارة ذاتها، بين الضحك والتوتر، معلنا وصفته في الحكم: الكره والسلطة.

إنه مصاص دماء البلاد وأهلها، وبعد أن نهب ثروة سوريا، لم يعد يطيق فقرها ولا النبش في التراب والغبار ولا الوجوه المتعبة الغاضبة الحزينة ولا شكوى الناس، البلاد في عهده صارت حطاما وأوجاعا ومقابر جماعية. اعتاد تركيع البلاد ولم يفهم كيف قامت الثورة. أرادهم أن يصمتوا فثاروا للكرامة والحرية والمواطنة.

طالما وصم السوريين بما هو في رأسه، فكانوا "الجراثيم" أولا والمندسين ثانيا، أي الأيادي الخارجية، والإرهاب ثالثا. وصم الثورة بالإرهاب. وطالما تفتتت آماله، بفضل وعي ولحمة وثقافة السوريين ومدنيتهم.

الغريب أن الطغاة عادة يتهافتون على استعراض حب البلاد، عبر آلة دعائية فتاكة تابعة لهم، يروجون بأنهم أكثر من أحبها، أكثر من خدمها، أكثر من رفع من شأنها، أنهم هم البلاد. لكنّ هنا نموذجا آخر، هو يكره البلاد والشعب. يقول مناصروه "الأسد أو نحرق البلد". وهو حين هرب، كان أحرق البلد وأحرقهم معه، لعلهم في هذه الفيديوهات يرون حقيقته العارية.

لدى علم النفس بالتأكيد تشخيص لهذه الشخصية. نوع هجين من الدكتاتوريات الطفيلية التي تحيا على الدم والضحك. يقتل ويضحك، يقصف بالكيماوي ويضحك، يشتم ويضحك، يكره ويضحك، ولا بد من محاكمته محاكمة عادلة، كي يرتاح الآلاف والآلاف من أرواح القتلى والمغيبين وأهاليهم. كي يهدأ خاطر سوريا. كي تبدأ المصالحة. كي تعلن سوريا يوم الحداد الوطني العام.

يقتل ويضحك، يقصف بالكيماوي ويضحك، يشتم ويضحك، يكره ويضحك، ولا بد من محاكمته محاكمة عادلة، كي يرتاح الآلاف والآلاف من أرواح القتلى والمغيبين وأهاليهم

إذا لم يحاكم هو وكبار معاونيه وشركاؤه في الجرائم، فلن تهدأ لوعة الأمهات والأطفال الذين كبروا الآن، ومنهم ذلك الطفل من بلدة كفرنبودة في ريف حماه: "أشو اعملنالوا؟".

أي إنسان طبيعي لا بد أن يفكر مثل هذا الطفل في سبب كراهية بشار الأسد للسوريين. الحقيقة أن كراهيته لا علاقة لها بما فعلنا، بل بما يريد هو أن يفعل بنا، بعجزه وإحساسه بالصغر أمام شعب عظيم وبلاد عظيمة كسوريا التي ورث حكمها. هذا جناه أبي علي، وقد جنيت على البلد.  

كان الهتاف الأعلى في الذكرى الأولى لعيد السقوط، "يلعن روحك يا حافظ". يعيدنا حديثه عن الكراهية في الفيديوهات، إلى الحملات الانتخابية في عهده، صورته في كل مكان مع كلمة "منحبك". ففي عهده صودر الحب، اعتقل الحب مع الكراهية في زنزانة واحدة.

لا أعتقد أن شعبا عاش لحظة مركبة كهذه اللحظة التي عاشها السوريون. أفقنا ووجدنا أنفسنا نحب صاحب الصورة الذي لا يحب أحدا. لا أعتقد أننا سمعنا له خطابا لم يقهقه فيه، ولم يعط الدروس في المصطلحات. كان بعيدا عن الناس لا كما كان يصدّر نفسه.

يتذكر المرء الكثير من الأصدقاء الذين غابوا والأهل والجيران... وأهل البلد المنكوبين وقد وحدتنا المأساة ووحدتنا الذكرى. وأتذكر اليوم بشكل خاص الأستاذ أنطون المقدسي (1914-2005)، الذي كان اسمه يتصدر البيانات الموقعة والتي حملت مطالب السوريين. وهو صاحب الرسالة الشهيرة "من الرعية إلى المواطنة" التي وجهها في عام 2000 إلى الرئيس الجديد بشار الأسد. وجاء فيها: "إن الشعب شبع من الكلمات الفضفاضة. مكاسب الشعب وإنجازات الشعب وإرادة الشعب. الشعب غائب يا سيدي منذ زمن طويل، إرادته مشلولة تقوم اليوم على تحقيق هدفين، الأول على الصعيد الخاص أن يعمل ليل نهار كي يضمن قوت أولاده، والثانية على الصعيد العام، أن يقول ما يطلب منه قوله وأن يتبنى السلوك الذي يطلب منه، إن الذي يعصم هذا الشعب من الدمار هو أنه يتعايش مع هذا الوضع المتردي تعايش المريض مع مرض مزمن".

وفي اليوم التالي وصلت الأستاذ المقدسي الذي كان يشغل مدير دائرة التأليف والترجمة في وزارة الثقافة بدمشق، رسالة إقالته في بريده موقعة من وزيرة الثقافة آنذاك، مها قنوت. صار بيت الأستاذ أنطون منذ ذلك اليوم مركزا ثقافيا للسوريات والسوريين.

الأحزان ليست ذاكرة، هي حقيقة مضنية ولا بد من إنصاف أهلها، لا بد من العدالة

لقد رحل الأبد الصغير، وها نحن أيها المعلم النبيل نسعى على درب المواطنة. عمت الأفراح البلاد، وصارت المعجزة، سوريا تستعيد ذاكرة الفرح. والأحزان ليست ذاكرة، هي حقيقة مضنية ولا بد من إنصاف أهلها، لا بد من العدالة.  

كل من قدم زهرة أو ماء أو روحا أو شجاعة... له في هذا اليوم نصيب، وفي طليعتهم الضحايا والشهداء.

كان يوما تاريخيا مشهودا، عيد الذكرى الأولى للتحرير ولسقوط الأسد. كان طوفانا للفرح في سوريا وبلدان الشتات، وأجزم أن الكثير من أهل الأرض فرحوا في هذا اليوم معنا.

font change

مقالات ذات صلة