لا تتوقف الحروب ولا تتوقف مؤتمرات السلام وتلك الطاقة الآتية من الإبداع بكل ألوانه التي تسند الحياة والأحلام ويسندها فن العيش وإرادة السلام. ورغم كل عنف الحروب فإنها لم تنتصر. هي تفوقت على ذاتها في العنف والقتل والشر وتدوير الاستلاب والاستبداد فحسب. طالما قادت الحروب عقول متوحشة، وربما تقود الأسلحة الذكية اليوم عقول اصطناعية بمرجعيات متوحشة.
قطعت الإنسانية على طريق السلام العسير والمتعثر أشواطا وأعمارا، رفعت أعمدة التنوير وأسست الحضارات، والحضارة العربية في قلبها، وخطت قوانين ومعاهدات وحقوق إنسان ودساتير، وألفت الأشعار والأغنيات والرسوم والروايات والحكايات وقصص الأطفال وعمرت الحياة اليومية، وبذلت اللغة ما تستطيع في الكلام والحبر، والدلالات والخيال والمعنى. وما حكايات الجدات ودعاء الأمهات سوى قطرات في هذا البحر.
للسلام وفلسفته في عصرنا الراهن القريب منا مرجعياته ومنابعه التي لا تنضب في نضال الشعوب السلمي. أيقونات لها منزلة الرمز العابر للزمن والحدود: غاندي، مانديلا، إلخ، أيقونات تقيم في ذاكرتنا الجمعية، وتعبر في هذا المعمار الكوني بين شروق الشمس وغروبها، الحمامة التي أطلقها بيكاسو في مؤتمر السلام العالمي الأول في باريس عام 1949، والتي اختيرت كملصق للمؤتمر وصارت رمزا لتلك المرحلة. في تلك الفترة رزق بيكاسو بطفلة فسماها "بالوما" وتعني بالإسبانية حمامة. طفولة مستمرة تذكره بوالده الرسام الذي كان يرسم الحمام في بيت العائلة في ملقا في ثمانينات القرن التاسع عشر. جاءت الحمامة في 1949 كأنما من تلك الألفة، ألفة الحياة اليومية في الطفولة. عبرت الحدود ووصلت.
اعتمد الكون هذا الرمز الذي يحط على سطح كل بيت وكوخ وخيمة وقصر. طبعت الملصقات وبيعت ووزعت في أرجاء العالم. ورغم استهلاك الحمامة وطباعتها مليارات المرات فهي لا تزال تمتلك قوتها الدلالية، هي التي عادت في الماضي أيضا بغصن أخضر وطين، بشارة عودة الحياة إلى اليابسة.
لا تتوقف الندوات والحوارات والمبادرات العابرة للحدود اليوم، يشارك بها أدباء وشعراء وفنانون ومفكرون معاصرون من مناطق الصراعات مع نظرائهم في كل أركان الأرض، تبحث في سبل الخلاص وفي ضرورة حماية العيش بسلام في هذا الكوكب، وفي صون أصول وبنية المجتمعات الإنسانية والحفاظ على سياق تطورها، وتحقيق العدالة والمصالحة الآن، الآن، وليس غدا.
هناك إحساس عالمي بالخطر لذا تضع هذه الطاقات الإبداعية والفكرية والسياسية إمكانياتها في محاولة فرملة هذا الخطر. سياق لا ينقطع، لتأكيد القوة التي تمنحها التعددية ويمنحها الاختلاف. فالأديان والإثنيات، سياق موصول بالتفاعل والتضامن وتبادل الخبرات.
سياق لا ينقطع، لتأكيد القوة التي تمنحها التعددية ويمنحها الاختلاف. فالأديان والإثنيات، سياق موصول بالتفاعل والتضامن وتبادل الخبرات
الحروب أحداث جسيمة تحرر المبادرات والإبداع من أجل المقاومة على طريق السلام المنشود. كمثال "الغرنيكا"، في عودة إلى بيكاسو، وكمثال حنظلة في كاريكاتير ناجي العلي، الذي يدير ظهره إلينا ويعطي عينيه للحقيقة. فلا يرى سواها.
منذ أيام زار الرئيس الألماني، "الغرنيكا" بعد مرور 88 عاما على القصف النازي لها، وضع الزهور في مقبرة الضحايا واعترف بأنها كانت جريمة وحشية. واعترفت فرنسا مؤخرا بعد مرور واحد وثلاثين عاما، بمسؤوليتها عبر صمتها عن الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994. وفي مقابل هذا فازت الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو صديقة ترمب واليمين المتطرف الإسرائيلي هذا العام بنوبل للسلام.
قد يعتذر هذا الكون في لحظة عن مأساة فلسطين أيضا. بانتظار ذلك، بانتظار المصالحات السياسية التي قد تأتي أو قد لا تأتي، يمد المثقفون والفنانون والناس، جسورا لهذه المصالحات، جسورا حقيقية مبنية على الوعي والمعرفة.
تنتقل الذاكرة من جيل إلى جيل، وتحمل الأجيال جيلا بعد جيل مسؤولية إعادة تعريف الهوية، لكن ثقافة السلام التي تريد هذه السطور أن تنتمي إليها ونحن على أعتاب عام جديد، هي ثقافة الحياة اليومية وفن العيش المشترك، فن الحياة اليومية التي فقدت أيامها والكثير من أهلها، والتي تنهض من تحت الصفر، في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق والسودان وأفريقيا والكثير من احتمالات الكوارث الآتية. فليس وقف الحرب سلاما وليست الهدنة مصالحة.
يسأل الناجون من الحروب في هذا الكون، الآن كيف نحيا؟ ماذا نفعل لكي تعود الحياة؟
تتكئ الحياة على طيبة الناس والعادات وروح الألفة. "لا يستقر السلم الأهلي بلا قانون، السلام يضمن السكينة والأمان إذا استطاع أن يكون ضامنا لحرية وحياة كل فرد من قبل المجتمع. لا يحرر السلام من الحرب، بل من العبودية أيضا" كما قال جان جاك روسو في "العقد الاجتماعي".
تصير الحياة اليومية التي تنتظر عودة أهلها، الطبيب الذي يعين على الشفاء من الجفاء والقسوة. العلاج الجماعي لمواجهة الفقد. تبتكر الحياة عدالتها في فن العيش والتضامن والمواساة والقوة الأخلاقية التي تجمع بين الناس.
وتزورنا فيروز كل صباح، تتفقد أحلامنا وتمنحنا أجنحة للتحليق فوق هموم اليوم. تعدنا في قصيدة الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد بأننا:
سنرجع خبرني العندليب
غداة التقينا على منحنى
بأن البلابل لما تزل
هناك تعيش بأشعارنا
وما زال بين تلال الحنين
وناس الحنين مكان لنا
في هذه المسرات موقف أخلاقي ووجهة نظر وانتماء وفيها صلح مع الذات، إذ تريد أن تنتمي إلى الحياة والواقع المعيش فيها
فيروز في الصباح صارت جزءا من ضميرنا الجمعي. في هذه المسرات موقف أخلاقي ووجهة نظر وانتماء وفيها صلح مع الذات، إذ تريد أن تنتمي إلى الحياة والواقع المعيش فيها، إلى أبطال هذه الحياة من الناس العاديين، إلى الأم التي ستوقظ طفلتها في غد قريب في أي مكان من هذا الكون، لا لكي تنتشلها من تحت القصف، بل لكي تغني لها وهي تمشط شعرها، وتعدها بأنها ستحمي مستقبلها، بأنه سيكون لها غد وبعد غد ومدرسة.