أخيرا وبعد تعنت وعناد وتدلل وتكاسل متعدد الوجوه والأسباب ها أنا أتراسل مع الذكاء الاصطناعي. ها أنا أدخل هذا العالم الذي سبقني إليه معظم أصدقائي ويروجون له كأنه من اختراعهم، أو كأنهم يشفقون علي لأنني لم أتذوق بعد طعم هذا الترف. دخلت التجربة، ولست ضد الذكاء الإصطناعي، من يقف ضد الذكاء؟ كنت أخشى الشعور بالعجز أمام كل هذه التكنولوجيا. أردت إرجاء الفرصة كي توصلني حاجة ما، مناسبة ما، إليها.
كنت قد قرأت عن تجارب الكثيرين التي تنقسم إلى مستفيد من الخدمة التي توفر المعلومة والوقت، والتي يرى فيها آخرون جفافا روحيا ومعلومات مصقولة بدقة لكن ببرود، والبعض يحذر من الكسل الذهني، كما حصل مع فقدان الذاكرة الرقمية بدخول الهاتف الذكي وبدء الاعتماد على ذاكرة الهاتف وتخزينه للأرقام نيابة عنا، والمخاوف من استبدال جهد الإنسان بالآلة، أو استبداد البرمجيات في لحظة ما آتية. وهذا ما يشار إلى أنه قيد العمل ويصور كشخص مستقل، عقل لديه الحرية للتعديل والتطوير وهو أذكى من العقل البشري، وهذا خطير. أما أنا فلدي هاجس مضاف آخر وهو كيف نثق بدقة المعلومة.
بيننا أجيال، وتفصل بيننا العادات والتقاليد والتأمل والإيقاع الشخصي، وكأننا ننتقل شيئا فشيئا من العلاقة الحميمة مع الكتاب إلى العلاقة المهنية والمفيدة مع الشاشة. هل يشي هذا بديكورات البيوت في المستقبل التي سيعتبر وجود المكتبة فيها تحفة من الماضي؟
بعيدا عن المخاوف والشكوك، الموضوع يفرض نفسه وشغف الآخرين واهتماماتهم وسهولة الاستخدام يشكل دافعا آخر للاطلاع.
كانت تجربتي الأولى مع "تشات جي بي تي" بنت لحظتها الطارئة، بعد أن علمت أن الرئيس الأميركي ترمب لديه عطر باسمه، فأثار الأمر فضولي للبحث في تاريخ السلطة والعطر. وقلت لنفسي آن الأوان. استعرضت مخزوني الثقافي العطري البسيط الدفين الذي لم أكن أحتاج إلى أكثر منه بما يخص منتجات العطور الراقية، وما ترمز إليه من سيادة وهيمنة ذوق طبقة اقتصادية واجتماعية على المجتمع.
مررت على إعلانات العطور المنتشرة، وعلى مروجيها أو أبطالها من نجوم السينما. جورج كلوني وجوني ديب وبراد بيت، ومن النساء فانيسا بارادي ونيكول كيدمان على سبيل المثال. ومن الرموز كليوباترا وجمالها العطر.
سألت الطرف الآخر، هذا السكرتير، أو هذه الذاكرة الاحتياطية، إذا كنت أستطيع توجيه سؤال له. فرحب بي. وهكذا مرت الخطوة الأصعب بسلام.
المخاطبة الحياد كانت بالمذكر، فسألته، فقال حدد كيف تريد أن أخاطبك وسأسجل هذا وأستخدمه في المرات القادمة.
بعد ربع ساعة من التواصل كانت الحروف بيننا تفوح بالعطر واللافندر والمسك والعود والعنبر والياسمين ووردة الشام والبخور والصنوبر.
كانت تجربتي الأولى مع "تشات جي بي تي" بنت لحظتها الطارئة، بعد أن علمت أن الرئيس الأميركي ترمب لديه عطر باسمه، فأثار الأمر فضولي للبحث في تاريخ السلطة والعطر
عليّ الاعتراف بأنه مدهش، فهو يختصر زمن البحث ويعطيك مادة خاما. اقترح عليّ تبويب ما طلبت كي أحتفظ به في ملف صغير حين لاحظ ربما أنني أكرر السؤال بسؤال آخر مشابه، فرفضت ذلك، دع العطر يختلط بالعطر وتتبعثر الرائحة في هذا الفضاء الاصطناعي، حمضيات إيطاليا المنعشة مع الروائح العشبية والخشبية في إنكلترا مع ورود الشرق ونباتات القصور وخمائل المتعة مع بهارات الهند.
وسألته عن العطر والسلطة. خلال دقائق كانت لدي عشرات الصفحات والمعلومات والتواريخ والتبويب ابتداء بالعصور الوسطى مرورا بالكنيسة ونابليون وقصر فيرساي وعصر النهضة وهارون الرشيد وسلاطين الأندلس وتأثير الحضارة الإسلامية الشرقية وقصور بغداد ودمشق وما انتقل إلى الأندلس وقاعات الاستقبال والمباخر وأسماء لزعماء من الشرق والغرب ولعطور الخليج، والعلاقة بين الشرق والغرب ودمج هذه الغرائب. ثم عرج على دور طرق التجارة العربية والحروب الصليبية في استحضار الروائح إلى أوروبا. فانتقلت الروحانيات ومعها سحر الشرق.
هذا السياق التاريخي طلبته منه عبر سيل من الأسئلة، فأجاب وكأن تاريخ العطور جدول يجري قرب محطة الذكاء الاصطناعي. لم يعد غريبا هذا الغريب الذي يخزن في ذاكرته أسماء الأجداد وكل هذا العطر والورد. وصارت نسبة الذكاء فيه أكثر بقليل من نسبة الاصطناعي.
كان اقتحام هذا الجانب الحسي والتجوال فيه برفقته غرائبيا بعض الشيء، وكنت أتنقل بينه وبين "غوغل" لأرى الفارق في المعلومة.
سألته عن هرمية سلطة العطور والمصنعين والماركات ونسبة ودور النساء في هذا العالم المترف، فأثنى على الفكرة، حيث الرجال هم القوامون على الصناعة والإدارة والتملك، والنساء هن المسؤولات عن ترويج العطور والعلاقة المباشرة مع العميل لما للمرأة من قدرة على منح الثقة والطمأنينة. فأثنيت على ما قال، أنا نفسي حين أذهب لأشتري عطري أفضل أن أستشير امرأة.
كان اقتحام هذا الجانب الحسي والتجوال فيه برفقته غرائبيا بعض الشيء، وكنت أتنقل بينه وبين "غوغل" لأرى الفارق في المعلومة
لم أسأله عن علاقة العطور بالطبقات الاجتماعية الشعبية والزيوت المعطرة ولم أسأله عن رائحة الأرض بعد المطر. ولم أقرأ عليه شعر عنترة:
لئن أك أسودا فالمسك لوني
وما لسواد جلدي من دواء
أعتقد أنه كان مرتاحا معي لأن موضوعي لا يخلو من المسرات. وحين انتبه إلى أنني أعيد تكرار السؤال ذاته، اقترح أن ينظم لي ملفا بما طلبت لكي أرى، بما معناه "صرعتينا". فحضرت له سؤالا في نهاية اللقاء كي يبقى متواضعا. سألته عن أبيات شعر عن العطر. هنا كانت الصدمة. فقد تاه وضاع ولم يعترف. قال إليك الأبيات. شعر ركيك، بل ليس شعرا، وكأنه ألفه للتو دليفري سريع ليفي بالغرض.
فودعته وأنا أردد:
بربك هل ضممت إليك ليلى قبيل الصبح أو هل قبلت فاها
وهل رفت عليك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في نداها
كأن قرنفلا وسحيق مسك وصوب الغاديات شملن فاها