تتألق في المشهد الشعري الفرنسي المعاصر أسماء شاعرات وشعراء ينتمون عمريا إلى جيل الألفية، وهو الجيل العالمي الأول الذي عايش الدخول الواسع للمعلوماتية والإنترنت ووسائط التبادل الاجتماعي، مما منحه البعد الكوني والانفتاح وتخطي الحدود والإنتماءات الضيقة، وحاول الكثير من أبناء هذا الجيل الاستقلالية وعدم القبول بواقع لا ينتمون إليه.
اختلفت التقديرات لكنها تقاربت في اعتبار أن هذا الجيل ولد ما بين الفترة 1980–1996. وحاولت الكثير من الدراسات السياسية الاجتماعية قراءة تصنيفات الأجيال وإسباغ صفات عامة عليها كي تحدد خصائص وملامح مشتركة لأبناء كل جيل. وأبناء جيل الألفية، كانوا الجيل الذي كما يقال تمت التضحية به، كبش فداء تجربة الإنترنت، واعتبرتهم هذه الدراسات غير معنيين بالحكمة خصوصا في مفهومها التقليدي فهم لم يعرفوا أي نظام اقتصادي اجتماعي سوى التبادل الحر العالمي والأزمات الاقتصادية الخانقة والحصار الذي ضربه وباء "كوفيد-19".
الجيل السابق لهم كان لديه نموذجان هما الرأسمالية والاشتراكية، اما هم فترعرعوا في ظل فقدان الأيديولوجيا وانحسار الفلسفة كمنهج فكري تحليلي. لقد عاشوا في العالم المعلوماتي ولهذا ارتكاساته، مثل عدم الاستقرار. فالتطورات والتعديلات لا تتوقف في حقل التكنولوجيا وهم مضطرون لاقتناء الأحدثْ من أجل التوصل إلى المعرفة المتجددة. لم تعد الورقة والقلم يكفيان للبقاء في هذا التواصل المفتوح المتسارع الذي يخترق الزمن والحدود. إنهم متعددو الثقافات والانتماءات ومتحررون من الكثير من الأحمال السياسية التي أنهكت ضمير الأجيال التي سبقتهم. لكن منهم من حمل قضايا عصره وعصر آبائه وأمهاته بقوة ونصاعة.
تقاطعت ولادة بنات وأبناء هذا الجيل مع سقوط الاتحاد السوفياتي والنظام الشيوعي في أوروبا ونهاية الحرب الباردة وعايشوا ثورات الربيع العربي وما بعد هذا الربيع من فصول، وعايشوا المحاولات المستمرة والمتجددة للدول المستعمرة في الإخلاص لتاريخ التفوق الذي لم تستطع كل معاهدات حقوق الإنسان أن تسكت نهمه.
عايشوا حرب أوكرانيا بعد حرب بوتين في سوريا ضد الثورة السلمية السورية النبيلة، وانتفاضة نساء إيران بعدما أثخنوا من مجازر النظام الإيراني في سوريا وغيرها، وعايشوا الصراع المرير والعادل لشعب فلسطين من أجل حريته وكان آخر ما شهده أبناء هذا الجيل وثاروا عليه وهم الآن في منتصف الثلاثينات وبداية الأربعينات، مجازر الإبادة في غزة. وقد رأيناهم في شوارع هذا العالم يرفضون الإبادة ويجرؤون على ما لم يقو آباؤهم على قوله. فخلقوا جدولا من الحرية يسري في عروق هذا الكون السياسي الليبرالي المتوحش، وفي هذا الجدول تسري مياه الحرية والعدالة والفنون والإبداع والحقيقة.
خلقوا جدولا من الحرية يسري في عروق هذا الكون السياسي الليبرالي المتوحش، وفي هذا الجدول تسري مياه الحرية والعدالة والفنون والإبداع والحقيقة
الشعراء الذين أوجه لهم التحية في هذه السطور هم من أبناء المستعمرات الذين تعالوا على تاريخهم الشخصي وانضموا إلى التاريخ الكوني في الدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. يكتب هؤلاء الشعراء أبناء الثقافة الفرنكفونية بالفرنسية، لذلك كان تأثيرهم في المشهد الشعري الفرنسي واسعا. سأذكر منهم أربعة شعراء يصعدون منذ سنوات في المشهد الشعري الفرنسي وتكرس أسماؤهم كشعراء ناشطين وملتزمين بقضايا الإنسانية وتحرر الشعوب والعدالة والصراع الطبقي والعرقي والفوارق الاجتماعية وازدرائهم لليبرالية المتوحشة وانتهاك حقوق الإنسان.
انفكاكهم الحر عن أية تبعية وإدانتهم بنقاء وسلمية ووضوح للتواطؤ بحق أهل المستعمرات، يضيء مواقفهم الإنسانية الناصعة كما الشعراء الذين عرفهم التاريخ وبقيت قصائدهم رديفا وحليفا للجمال. منهم من ينحدر من الدول التي عاشت تحت الانتداب ومنهم من أبناء المستعمرات في أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي والكاميرون والمارتينيك.
لقد تخطوا الحدود الجغرافية والثقافية والهويات الضيقة ونبضت قلوبهم بأفكار ومبادئ كونية كالمساواة والمواطنة والحرية والندية كأنما يدافعون عن كرامات آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم ويعيدون لهم الاعتبار.
هؤلاء الشعراء هم الشاعرة الكاميرونية-البلجيكية ليزيت لامبي، وقد انتخبت "شاعرة بلجيكا" للعام 2025، والشاعر الهاييتي جان داميريك، واللبنانية-اليونانية صوفيا كارامبالي فرحات، والفرنسية من المارتينيك لورا لوتار.
تكمن الأهمية هنا في كونهم يوجدون في منابر حساسة، في المدارس الثانوية للحوار مع الطلبة، ولإقامة ورشات كتابة شعرية، وفي المهرجانات العالمية، وقد صار لأسمائهم حضور ومتابعة حتى إن بعض البرامج التلفزيونية تستقبلهم لما لهم من انتشار يهيئه لهم المشهد الثقافي الذي يفخر بكونهم يكتبون بالفرنسية وقد قلبوا المعايير، فلهم جمهور يتبعهم ويكبر معهم ويقتني إصداراتهم.
في 2024 عين الكاتب اليميني المتطرف سيلفان تيسون راعيا لتظاهرة ربيع الشعراء الفرنسية الشهيرة لذلك العامْ، وهي تمتد من منتصف شهر مارس/آذار في كل عام حتى نهاية الشهر، وتدعمها وزارة الثقافة ووزارة التربية والهيئة الوطنية للكتاب والدولة الفرنسية وتستقبلها المكتبات والمسارح والمدارس وبيوت الشعر والمهرجانات. وقع 1200 شاعر وأديب بيان استنكار ورفض، معظمهم من أبناء الأجيال الشعرية الشابة، ومن بين الموقعين هؤلاء الشعراء الأربعة، فألغيت مشاركة تيسون في التظاهرة.
إنهم يعطون صوتهم بكل جلاء ووضوح للصراع ضد الكولونيالية وضد أنظمة الفصل العنصري، فتفتح لهم المنابر وتستقبلهم دور النشر المستقلة باحترام.
إنهم يعطون صوتهم بكل جلاء ووضوح للصراع ضد الكولونيالية وضد أنظمة الفصل العنصري، فتفتح لهم المنابر وتستقبلهم دور النشر المستقلة
يتكثف الاهتمام في المشهد الشعري الفرنسي بالصوت الشبابي، الفرنكفوني، أو المطعّم بالناطقين بلغاتهم الأم والذين ترجمت أعمالهم إلى الفرنسية، هناك اهتمام وإصغاء لهذه الأصوات، وكأن الكون يحتاج إلى تجارب الكون لكي يجد السبيل إلى الخروج من هذا الاختناق والعنف. وهذا يعكس مصداقية الشعر وقوة الشعر ورمزيته في الثقافة الفرنسية.
تستشهد الشاعرة لورا لوتار من المارتينيك في كتابها الشعري الأخير "ولدتُ من نسيج عِرقي" بمواطنها فرانز فانون، وتستشهد بتوني موريسون وبسوزان سيزير الكاتبة والمناضلة شريكة الشاعر إيمي سيزير، ويستشهد جان داميريك الشاعر الهاييتي بشعر محمود درويش، وليزيت لومبي شاعرة بلجيكا الوطنية، تضع فلسطين في صلب مواقفها وتفكك آليات التهميشْ. وصوفيا فرحات اللبنانية–اليونانية، تدعو إلى تحرر الإنسان وتفضح الاحتلال الإسرائيلي.