ربيع العالم

ربيع العالم

استمع إلى المقال دقيقة

بعد الكفاح النبيل الشجاع الفريد والمرير، والتضحيات التي قدمتها فلسطين على مذبح الحرية والعدالة وعلى دروب تحرر الشعوب من العنصرية والاستعمار الاستيطاني، لم يخطر ببالي، رغم عدالة الأمل والحق الفردي والجمعي بنيله، أن أشهد انتفاضة الشارع الكوني من أجل فلسطين. ففلسطين تنتهك أمام أعين الكون منذ أكثر من سبعين عاما واليوم وصلنا إلى ذروة المقتلة ولا يزال الفلسطيني يبتكر سبل الشجاعة والمقاومة على هذا الدرب، درب دولة فلسطين الحرة المستقلة.

وقد تلقيت قبل أيام من شاعرة إيطالية صديقة صورة حافلة النقل الداخلي في مدينتها تضع اسم غزة مضاء على واجهتها، إشارة إلى وجهة نقل الركاب في شوارع روما، لترمز هذه الصورة وغيرها الكثير، إلى حساسيات إنسانية استيقظت لدى فئات واسعة غالبيتها من أجيال جديدة متقاربة في هذا العالم، وجدت نفسها أمام لحظة تاريخية، فرفضت الاستمرار في قبول التمييز الحاصل بحق أهل الأرض ورفضت الانتماء إلى هذا الانتصار الإجرامي القائم على سحق شعوب أخرى، وانتفضت على الصمت تجاه إبادة ترتكب في القرن الواحد والعشرين على نحو ما تم الصمت على الإبادات السابقة.

لم تستطع أيديولوجيات التوحش قتل الحقيقة ولا استطاعت البروباغندا الصهيونية إلغاء وعي الشعوب، فاخترق هذا الظلم المديد، نشيد الأمل الجديد: "الحرية الحرية لفلسطين".

لقد صدق الشعر وصدقت الأغنيات وصدقت ثورات الكون السلمية التي تصل صوت الإنسانية بعضها ببعض، صدق "أسطول الصمود"، ومن ضمنه سفن شيرين أبو عاقلة وأنس الشريف وحنظلة ودير ياسين، وكل اسم لم يستطع نظام الإبادة اقتلاع جذوره في فلسطين، ولا اقتلاع فلسطين من ضمير العالم.

يا لها من حياة مؤثرة. صرخة الضمير الإنساني تمد من جديد جسورها في معمار الأمل. كأن الفكرة التي تشردنا من أجلها وحملناها في صدورنا، كما حملتها شعوب من قبلنا لا تزال تنبض. الشجاعات تزهر، التضحيات تزهر، القيم والثقافات والحضارات والأخلاق الإنسانية تزهر.

شعوب الأرض تنهض لتصير صوت الضحية وضميرها، كي تستعيد الضحية كرامتها، كي يتعرى طغاة العالم وتتعرى الجريمة ويتعرى التنميط الوحشي لقضايا العالم الثالث وحشرها تحت عنوان القضاء على الإرهاب وحشر الشعوب في أزمات اقتصادية خانقة تقزم الفرد وتخنقه وتعزله.

شعوب الأرض تنهض لتصير صوت الضحية وضميرها، كي تستعيد الضحية كرامتها، كي يتعرى طغاة العالم وتتعرى الجريمة ويتعرى التنميط الوحشي لقضايا العالم الثالث


هذا الجيل الجديد قلب الطاولة على أحادية ونخبوية وقدسية البطولة، خلص البطولة من تنميطها على أنها سلطة، فهذا التضامن الواسع العابر للقارات والحدود والبحار هو تضامن جماعي، هو عمل الفريق والهيئات والمؤسسات والمجتمعات المدنية والوعي بحقوق الإنسان وذلك النضال الطويل للآباء والأجداد وللشعوب التي دفعت أثمانا باهظة كي تصل إلى هذه اللحظة، اللحظة العتبة. النخبة هنا هي نتاج المبادرة التي تتسع لتضم أكبر عدد من المتطوعين كي تتمكن من الاستمرار، كي لا تكون معزولة عن الشارع، فالبطل هو الإنسان العادي، ذلك الفرد بين الجموع.

بدأت الشعوب تعثر على طريق التلاقي، بعد أن تعثرت لزمن طويل في شق هذا الطريق، وبدأت تصنع المبادرات لمد الجسور بين مختلف المظالم الناجمة عن التمييز العنصري أو الطبقي أو الجنسي. فهل اخترقت هيمنة العولمة بعولمة أخرى، بعد أن وحدت فلسطين القلوب والشجاعات، وكانت صرخة غريبة دوت لتوقظ الغافلين عن مجد الصرخة: "الحرية الحرية لفلسطين".   

تعود صرخة الحرية كما تعود قصيدة الشعر، مثل أغنية تحط في الفؤاد، في الجامعات والمدارس والشوارع والملاعب والبيوت والأمسيات الشعرية والمهرجانات، هو النضال السلمي، وفلسطين في فلسطين لا تزال تذبح.

أية رمزية تفوق هذه الرمزية. قد تكون الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ، مثالا حيا على بنات وأبناء هذا الجيل، هي التي انخرطت منذ يفاعتها في الدفاع عن كوكب الأرض، حذرت زعماء العالم في مؤتمر قمة المناخ العالمي قائلة "إن بيتنا يحترق"، مشيرة إلى ضرورة خفض درجة التلوث المسبب لارتفاع درجة حرارة الكوكب، ووبخت رؤساء العالم على تقاعسهم في هذا الأمر ورفعت درجة الوعي المناخي في نضالها، حتى اختارتها مجلة "تايم" الأميركية في 2019 شخصية العام بعد أن تحولت إلى مصدر إلهام لملايين الشباب والشابات والأطفال في العالم.

وأعلنت ثونبرغ عن أربعة مواضيع متداخلة: البشرية تواجه أزمة وجودية بسبب التغير المناخي، الجيل الحالي من البالغين هو المسؤول عن التغير المناخي،  التغير المناخي سيكون له تأثير متباين على الشباب، وأخيرا أننا لا نفعل سوى القليل لتجنب ذلك.

أوصلها نضالها الشجاع في الدفاع عن كوكب الأرض، إلى موقفها النبيل والشجاع في ضم صوتها إلى أصوات المدافعين عن عدالة قضية فلسطين ضد نظام الإبادة، لتوحد فلسطين دقات الساعة على سطح الأرض.  

ها هي غريتا ثونبرغ تخاطب العالم بوضوح لا لبس فيه ولا تردد: "لست خائفة من إسرائيل أنا خائفة من عالم يبدو أنه فقد كل شعور بالإنسانية"


انضمت غريتا لأسطول الصمود مع مئات من 44 دولة لكسر الحصار عن غزة من بينهم الناشط الحقوقي ومنسق أسطول الحرية البرازيلي تياغو أفيلا. نحن اليوم أمام نماذج أخرى من الأبطال، بلا خطابات رنانة وتقريبا بلا استخدام الـ"أنا"، تقول ثونبرغ: "نحن نحاول كسر الحصار غير القانوني على غزة وفتح ممر إنساني، نقوم بهذا لأننا أمام إبادة جماعية وأمام القمع الخانق الذي يتعرض له الفلسطينيون منذ عقود، إذا كان لدينا أي ذرة من الإنسانية لا يمكننا الاكتفاء بمشاهدة ما يحدث. عندما تفشل حكوماتنا تقع المسؤولية علينا، نحن نمارس حقنا الديمقراطي الذي يكفله لنا القانون".

بعد الكاتبة والناشطة الأميركية أنغيلا ديفيس، ها هي غريتا ثونبرغ تخاطب العالم بوضوح لا لبس فيه ولا تردد: "لست خائفة من إسرائيل أنا خائفة من عالم يبدو أنه فقد كل شعور بالإنسانية".  

font change