يأتي تنظيم "مؤتمر الاستثمار الثقافي" في دورته الأولى، والذي استضافته العاصمة السعودية الرياض في 29/30 سبتمبر/ أيلول، ليدشن دخول المملكة عصر اقتصاد الإبداع وجعل الثقافة جزءا لا يتجزأ من معادلة نموها الاقتصادي وأحد مصادر دخلها المستدام، حيث أعلنت وزارة الثقافة المنظمة للمؤتمر عن إطلاق جامعة الرياض للفنون، كأول جامعة متخصصة في التعليم الإبداعي، كما خصصت استثمارات في البنية التحتية الثقافية تجاوزت 81 مليار ريال، وأطلقت صناديق استثمارية نوعية في مجالات السينما والأزياء والفنون البصرية، باستثمار يفوق 1.5 مليار ريال سعودي في دلالة واضحة منها على أن ما يحدث ليس مجرد مبادرات متناثرة، بل بناء مؤسسي لاقتصاد ثقافي شامل.
وفي ظل ما تشهده منطقة الشرق الأوسط منذ عقود من ظروف سياسية وتقلبات ثقافية واجتماعية وتحالفات تصالح الثقافات المتباعدة، وتقربها من بعضها، وتضيف لها شراكات تسهم في اقتصادات بلدانها، بات من الضروري إعادة الاعتبار للثقافة بوصفها عنصرا حيويا في بناء القوة الناعمة وتحقيق التنوع الاقتصادي عبر إطلاق المبادرات الكبرى، وإنشاء الهيئات المتخصصة، وتخصيص التمويل اللازم لتجهيز بنية تحتية ثقافية متينة تجلب الاستثمارات وتحقق الغايات.
ما يجعل بلدا نفطيا كالسعودية يقيم مؤتمرا للاستثمار الثقافي بهذا الحجم هو ما يمتلكه من إرث ثقافي وتراث غني
غير أن ما يجعل بلدا نفطيا كالسعودية يقيم مؤتمرا للاستثمار الثقافي بهذا الحجم هو ما يمتلكه من إرث ثقافي وتراث غني يشكل أحد أبرز روافد ومقومات الاستثمار الإبداعي، ومن ضمن ذلك على سبيل المثال منطقة جدة التاريخية التي أعلن عن مشروع رقمنتها بالشراكة مع "غوغل" بهدف توفيرها عبر أدوات رقمية عصرية تُتيح زيارتها إلكترونيا من جميع بلدان العالم. إضافة إلى مدينة العلا، والدرعية التاريخية، والمتاحف، والقرى الأثرية، هذا فضلا عن الإرث الإسلامي وتاريخه الذي تدل عليه الشواهد منذ آلاف السنين. وهذا التنوع الجغرافي والثقافي لا يمثل فرصا للمستثمرين وحدهم بل يعد صورة عميقة للهوية الوطنية التي باتت أهم محتوى سعودي قابل للتصدير.
ويبقى الحافز الأكبر لمثل هذا التحول الاقتصادي هو ما تزخر به السعودية من جيل شاب يشكل غالبية السكان، يحمل طموحا كبيرا للتعبير والابتكار، ويتقن أدوات التكنولوجيا الحديثة، يضم أكثر من 150 ألف مبتعث بجميع التخصصات طافوا جميع بلدان العالم وحملوا علومها وثقافتها، وهذا الرقم وحده كفيل بتوظيفه من خلال برنامج خاص لاستقطاب الأفكار العالمية بعيون سعودية، لصناعتها والمنافسة بها والرهان عليها دوليا.
بإمكان السعودية أن تصبح مركزا دوليا واعدا لمحتويات الموسيقى والموضة، والسينما والفنون البصرية، وتأسيس هوية ثقافية جديدة تستطيع المنافسة عالميا، دون أن تفقد أصالتها المحلية
ومع صعود الاقتصاد الإبداعي حول العالم، الذي تشير التقارير إلى مساهمته بأكثر من 2 في المئة في اقتصادات الدول المتقدمة، تبدو الفرصة مؤاتية لوضع السعوديين على خارطة الصناعات الثقافية العالمية، مستفيدين من الزخم المحلي والدعم الحكومي والفرص الاستثمارية المتنامية التي عرضتها كبرى الشركات العالمية في الصناعات الإبداعية التي شاركت في مؤتمر الاستثمار، مثل "سوني بيكتشرز"، و"سوذبيز"، و"كريستيز"، و"آرت بازل" التي وجدت ثقافتها في السوق السعودية.
هذه المؤشرات وغيرها تؤكد أن بإمكان السعودية أن تصبح مركزا دوليا واعدا لمحتويات الموسيقى والموضة، والسينما والفنون البصرية، وتأسيس هوية ثقافية جديدة تستطيع المنافسة عالميا، دون أن تفقد أصالتها المحلية. إنها لحظة الانتقال من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن التعبير الفردي إلى الاستثمار المؤسسي، وهو ما يُشكّل لبنة أساسية في بناء اقتصاد إبداعي يحمل بصمته الخاصة ويخاطب العالم انطلاقا من لغته وهويته.
ومع كل ما ذكر فإن عائق التمويل المستدام قد يؤثر على الاستثمار في بعض جوانب الثقافة، يرجع ذلك إلى أن معظم مشاريعها تعتمد في الأساس على الدعم الحكومي والشراكات الثقافية، مما يجعلها عرضة للتقلبات الاقتصادية أو تغيّر الأولويات. لهذا باتت الجهات المعنية تعمل لإيجاد نماذج تمويل أكثر استدامة عبر بناء شراكات مع القطاع الخاص، وتحفيز رأس المال الذكي للدخول في الصناعات الثقافية والإبداعية.
في نهاية هذا المسار التحولي يظهر لنا جليا أننا أمام مشروع حضاري يرتكز على الإنسان لا باعتباره متلقيا للثقافة، بل بوصفه منتجا لها وفاعلا في تشكيل هويتها
في نهاية هذا المسار التحولي يظهر لنا جليا أننا أمام مشروع حضاري يرتكز على الإنسان لا باعتباره متلقيا للثقافة، بل بوصفه منتجا لها وفاعلا في تشكيل هويتها، ومشاركا في نقلها إلى الأجيال والعالم. فالثقافة الحقيقية تبدأ ببناء العقول، وتطوير الأفكار، وتنامي القصص التي نصنعها ونرويها بأنفسنا كجزء أصيل من معادلة التنمية المستدامة، والقوة الناعمة التي تتطلب دمج الثقافة في السياسات التنموية، وتوجيه استثماراتها نحو بناء القدرات بغية الوصول لاقتصاد وطني معرفي لا يعتمد على الأصول المادية أو مصادر الطبيعة بل على الفِكر الإنساني باعتباره المصدر الوحيد الذي لا ينضب أبدا.