الماء حاضر في كل ركن من أركان الكون، يطل علينا في صورته الأزلية كعنصر أساس للحياة وكشاهد على تاريخ طويل من التحولات الكونية.
فمنذ منتصف ستينات القرن الماضي، بدأ الفلكيون يلتقطون إشارات مدهشة عن وجود بخار ماء في الفضاء، في ما يعرف بـ"البخار الكوني"، وهو يشبه في طبيعته ما نعرفه على الأرض لكنه يتوزع بين النجوم وفي سحب غازية وغبارية بعيدة. كان هذا الاكتشاف حينها بمثابة فتح علمي غير متوقع، إذ نسف التصور السائد بأن الأرض وحدها تختزن الماء في صورته المألوفة، وكشف أن الماء يتجاوز حدود كوكبنا ليصبح جزءا أصيلا من البنية العميقة للكون.
ومع التقدم التكنولوجي وتطور أدوات الرصد، تعاظمت هذه المعرفة واتسعت رقعتها. فقد أتاحت التلسكوبات الراديوية والفضائية، مثل "هابل" و"هيرشل"، إمكان تتبع البخار المائي في مناطق بعيدة من مجرتنا وفي مجرات أخرى أيضا، ورصدت كميات هائلة منه في السدم النجمية حيث تتشكل النجوم والكواكب. لم يعد الماء مجرد تفصيلة جانبية، بل اتضح أنه رفيق دائم لمسار ميلاد النجوم وتطور الكواكب. ولعل هذا ما جعل العلماء ينظرون إليه كخيط متصل يربط بين الكيمياء الكونية وبزوغ أنظمة كوكبية جديدة، بما في ذلك نظامنا الشمسي.
الأكثر إثارة أن الماء ظهر في أماكن لم تكن متوقعة على الإطلاق، مثل أقمار المشتري وزحل، وفي المذنبات التي تجوب الفضاء ككبسولات متجمدة تحفظ أسرار النظام الشمسي الأولي. هذه الاكتشافات دفعت العلماء إلى إعادة النظر في أصل مياه الأرض نفسها. فهل نشأت من الداخل عبر عمليات جيولوجية، أم أنها جاءت من الخارج عبر وابل المذنبات والكويكبات الغنية بالجليد؟ السؤال ظل مفتوحا، لكن المؤكد أن تاريخ الماء على الأرض لا يمكن فصله عن تاريخ الماء في الفضاء.
والآن، تضيف دراسة علمية جديدة معلومة جديدة قد تساعد في الإجابة عن ذلك التساؤل المفتوح، بعد أن كشفت عينات الصخور التي جلبتها مركبة الفضاء اليابانية "هايابوسا 2" من كويكب يسمى "ريوغو" عن أدلة جديدة حول أصل المياه في النظام الشمسي، وأظهرت التحاليل المتقدمة بقاء الماء في "ريوغو" محتجزا داخل معادنه لمليارات السنين، مما يفتح نافذة غير مسبوقة لفهم كيفية انتقال المياه من الفضاء إلى كوكبنا.
البحث عن "ريوغو"
شهدت العقود الأخيرة اكتشافات غيّرت نظرتنا إلى الماء في النظام الشمسي، مثل رصد جزيئات الماء والهيدروكسيل في تربة القمر عام 2009 عبر أجهزة "ناسا" على المسبار "تشاندرايان-1"، وهو ما فتح باب التساؤلات حول مصدر هذا الماء وتوزيعه. كما أثبت مسبار "فينيكس" عام 2008 وجود جليد مائي على سطح المريخ، حيث أكد بيتر سميث أن الشظايا البيضاء المرصودة لم تكن ثاني أكسيد الكربون بل هي ماء متجمد، مما أتاح فرصة لفهم التاريخ المائي للكوكب وإمكان وجود حياة.