ما الذي يضعف التجارة البينية الأفريقية في قارة الثروات؟

80 في المئة من التحويلات المالية بين دول أفريقيا تتم عبر مصارف أوروبية وأميركية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
أحد مؤيدي المجلس الوطني لحماية الوطن في النيجر (CNSP) يحمل أعلام مالي وبوركينا فاسو والجزائر والنيجر وروسيا في ملعب الجنرال سيني كونتشي في نيامي، 26 أغسطس 2023

ما الذي يضعف التجارة البينية الأفريقية في قارة الثروات؟

على أطراف بلدة المحمدية التابعة إداريا لمدينة الجزائر العاصمة، وعلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط الذي يفصل الجزائر عن فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، احتضن "قصر المعارض بالصنوبر البحري" حدثا تجاريا، شهد زيارة 14 رئيس دولة إلى جانب 6 ممثلين لرؤساء دول و41 وزيرا، في حين بلغ عدد الدول المشاركة 49 دولة أفريقية، فيما استقطبت التظاهرة 2148 عارضا لاستعراض خبراتهم ومشاريعهم في المعرض الأفريقي للتجارة البينية في نسخته الرابعة، تحت شعار: "جسور نحو فُرص جديدة".

وحملت المناسبة في طياتها رسائل سياسية واقتصادية تتمحور كلها حول تعزيز التكامل الإقليمي بعيدا من التدخلات الغربية، وذلك من خلال بناء تحالفات اقتصادية لتلبية التحديات المشتركة وتحقيق المصالح القارية.

كما وقع العديد من العقود التجارية والاستثمارية بقيمة إجمالية بلغت 48.3 مليار دولار، منها 11.6 مليار دولار فرص تصدير جديدة للشركات الجزائرية، في مقابل 43.77 مليار دولار، في الدورة السابقة، فيما ارتفع عدد الصفقات إلى 958 عملية مقارنة بـ698 في عام 2023.

حققنا إنجازات معتبرة بفضل تفعيل منطقة التبادل الحر (زليكاف) لكن مع ذلك لا يزال الطريق طويلا لتصحيح المظالم التاريخية في حق أفريقيا وافتكاك المكانة التي تليق بها في الاقتصاد العالمي

الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون

صحيح أن هذا الحدث الاقتصادي البارز، الذي نظمه البنك الأفريقي للتصدير والاستيراد "أفريكسيمبنك" بالتعاون مع مفوضية الاتحاد الأفريقي وأمانة "زليكاف"، بعث الآمال بمحاولات انعتاق أبناء القارة السمراء من الماضي الذي أثقلته جراح الاستعمار وتبعات التبعية نظرا إلى التجارب الأفريقية التي عُرضت وشملت مجال التصنيع والتركيب في أفريقيا وهو المجال الذي قطع شوطا كبيرا في الاندماج والتكامل والتنويع وقيمة الصفقات التجارية والاستثمارية التي أبرمت إذ تتجاوز 44 مليار دولار، لكنه يعيد طرح الكثير من الأسئلة الملحة من قبيل: ما العوائق التي تقف في وجه التبادل التجاري في القارة السمراء، وتقف تاليا في وجه تسريع وتيرة النمو الاقتصادي؟ وهل سيتحقق حلم النهضة الأفريقية الذي سيضعها في مقامها الطبيعي بين الأمم؟ 

فجوة عميقة في البنى التحتية 

اختار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن يكون أكثر صراحة من أي وقت مضى، فلم يقف عند الإنجازات فقط بل وضع يده على موضع الجراح المثخنة، وقال في الكلمة التي ألقاها في المناسبة: "لقد حققنا إنجازات معتبرة بفضل تفعيل منطقة التبادل الحر (زليكاف) لكن مع ذلك لا يزال الطريق طويلا لتصحيح المظالم التاريخية في حق أفريقيا وافتكاك المكانة التي تليق بها في الاقتصاد العالمي".

AFP

وقدم أرقامًا وإحصاءات تُبرز مكانة إفريقيا في النظام التجاري العالمي، وخاطب القادة الأفارقة قائلا: "حصتنا مُجتمعة كدُول إفريقية لا تتجاوز 6.5 المئة من حقوق التصويت في صندوق النقد الدُولي" ووصفها بـ "الأضعف وتُعادل 11 المئة في البنك الدولي". وبالنسبة الى مُنظمة التجارة العالمية وعلى الرغم من انتزاع إفريقيا منصب مُدير عام فيها فإن نسبتها لا تتجاوزُ 3 المئة، على الرغم من أنها تستحوذُ على 30 المئة من الثروات العالمية، وتمثلُ 1.5 مليار نسمة وسُوقًا استهلاكية صامدة، بينما لا تتجاوز التجارة البينية الإفريقية 15 المئة من حجم المبادلات، مقارنة مع 60 المئة في بين دول أوروبا، مثلا".

على الرغم من انتزاع أفريقيا منصب المدير العام لمنظمة التجارة العالمية، فإن حصتها من التجارة الدولية لا تتجاوز 3 في المئة، مع أنها تستحوذ على 30 في المئة من الثروات العالمية وتمثل سوقا استهلاكية من 1.5 مليار نسمة

وتعد إشكالية البنية التحتية من أهم العوائق التي تحول دون تحقيق الأحلام الكبرى للقارة مثل: حلم السوق الأفريقية المشتركة والحد من النفوذ المهيمن للدولار الأميركي على الاقتصادات والتجارة، وأشار الرئيس الجزائري خلال كلمته إلى "فجوة عميقة في البنية التحتية في القارة تكلف نحو 90 مليار دولار سنويا وتؤدي إلى انخفاض يعادل 22 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الأفريقي". 

وللتدليل على هذا المعطى، يقول الأمين العام للمركز الجزائري للدراسات الاقتصادية والبحث في قضايا التنمية المحلية البروفسور ساري نصر الدين لـ"المجلة" إن "أفريقيا تحتاج حاليا إلى استثمارات تفوق 100 مليار دولار لسد هذه الفجوة، بينما يظل أكثر من 40 في المئة من سكانها بلا طرق معبدة أو شبكات نقل عصرية، كما أن 60 المئة من الطرق وشبكات النقل بين البلدان ضعيفة وهو ما تسبب في رفع تكلفة شحن البضائع داخل القارة إلى ضعف المتوسط العالمي ما يجعل التجارة الأفريقية البينية من بين الأغلى في العالم وهو ما يفرض اليوم بناء جسور قوية".

Shutterstock
الغاز الجزائري محور الشراكة مع دول القارة الأفريقية

 واحتضنت الجزائر في السنوات الأخيرة مشاريع هيكلية كبرى أهمها: مشروع الطريق العابر للصحراء الذي يُعتبر أكبر مشروع مهيكل في القارة يربط 6 بلدان موزعة على 3 من المجموعات الاقتصادية الثماني للقارة، والطريق الرابط بين تندوف والزويرات (مدينة موريتانية وعاصمة ولاية تيرس زمور)، إضافة إلى أنبوب الغاز العابر للصحراء، ومشاريع الربط الطاقوي والكهربائي مع بلدان غرب أفريقيا التي تعاني حاليا من مشاكل خطيرة في إمدادات الطاقة ومشروع الوصلة المحورية العابرة للصحراء الذي يندرج في إطار مبادرة الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا (النيباد) ويربط بين الجزائر، النيجر، نيجيريا، تشاد، مالي وأخيرا موريتانيا.

تعثر الأنظمة المالية والمصرفية 

وهناك معوق ثان وأساسي يتمثل في الرسوم الجمركية، فعلى الرغم من تحرير التبادل التجاري وبصفة رسمية عام 2019، إلا أن بعض الدول لا تزال تفرض رسوما جمركية تفوق 30 في المئة، كما أن إجراءات العبور تستغرق حسب البروفسور ساري نصر الدين وقتا طويلا يفوق أكثر من سبعة أيام أحيانا، مما يخلق إشكالات تقنية عديدة.

80 في المئة من التحويلات المالية بين الدول الأفريقية تتم عبر مصارف أوروبية وأميركية مما يرفع التكاليف ويضعف الثقة، وعلى الرغم من إطلاق نظام الدفع الأفريقي الموحد إلا أن اعتماده على نطاق واسع لا يزال بطيئا، بسبب هيمنة الدولار على التجارة 

التحدي الآخر الذي يواجه التبادل البيني في أفريقيا هو هشاشة الأنظمة المالية وضعف التكامل المصرفي، ولفت البروفسور نصر الدين ذاته إلى أن "80 في المئة من التحويلات المالية بين الدول الأفريقية تتم عبر مصارف أوروبية وأميركية مما يرفع تكاليف المعاملات ويُضعف الثقة في التبادلات عادة، وعلى الرغم من إطلاق نظام الدفع الأفريقي الموحد إلا أن اعتماده على نطاق واسع لا يزال بطيئا لأسباب عدة من بينها: استمرار تقويم الديون الخارجية بالدولار وهيمنة الدولار على التجارة الدولية، إضافة إلى مركزية النظام المالي العالمي. فكل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يعتمد على الدولار في تمويل الدول النامية". 

لا يمكننا أن نغفل أيضا الطبيعة الهيكلية للاقتصاديات الأفريقية حيث تعتمد معظم دول القارة على تصدير المواد الأولية كالنفط والمعادن الخام والمحاصيل الزراعية الأولية دون تطوير قاعدة صناعية تحويلية قوية وهو ما جعل التجارة الأفريقية البينية لا ترقى إلى المستوى المطلوب. فهي لا تمثل سوى 15 المئة من إجمالي التجارة الإجمالية لقارةـ مقارنة بأوروبا وآسيا (أكثر من 60 في المئة).

 كذلك لا يجب إغفال التحديات الأمنية والسياسية، فالنزعات المسلحة وعدم الثبات السياسي من الساحل إلى القرن الأفريقي (إريتريا وجيبوتي وإثيوبيا والصومال) يعرقلان إنجاز المشاريع الكبرى وجذب المستثمرين الأجانب، وتقول أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر -3 سعيدة سلامة إن "أفريقيا أضاعت الكثير من الفرص بسبب غلبة المصالح الضيقة على المصلحة العامة وبسبب شيوع سياسة ملء البطون التي حولت الثروة إلى غنيمة يتقاسمها القلة بدل أن تكون وسيلة لنهضة الجميع".

أفريقيا بشارة الغد ووعد الشباب

لكن هناك بصيص من الأمل يلوح في الأفق كضوء الفجر بعد ليل طويل يهمس للأفارقة بأن القادم أجمل. وتقول الدكتورة سلامة إن "أفريقيا اليوم ليست مجرد قارة على خريطة العالم بل هي وعد التاريخ وبشارة الغد في حقبة تتهاوى فيها الأمم العجوز تحت وطأة الشيخوخة السكانية والانكماش الديمغرافي، فأكثر من ستين في المئة من أبنائها شباب ووراء كل وجه شاب مشروع أمة، وخلف كل فكرة مبتكرة ملامح نهضة، وفي كل حلم يولد مستقبل يتوثب ليشق طريقه نحو الأفق". 

تولي القيادة الجزائرية أهمية قصوى لتكوين مئات من الشباب المهنيين ونشرهم في جميع أنحاء القارة السمراء وهي تدرك جيدا أن الرهان على الشباب ليس مجرد مسألة عارضة أو مؤقتة بل رهان حقيقي ودائم، فهم اليوم يمثلون الحاضر وفي الغد سيكونون كل المستقبل، وهي تعول على إدماج المؤسسات المتوسطة والصغيرة والناشئة لإعادة هندسة التبادل التجاري في أفريقيا وتنشيطه، وقد استحدثت لهذا الغرض صندوق تمويل المؤسسات الناشئة والشباب المبتكر في أفريقيا على مستوى الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي والتضامن والتنمية ويُعنى بتطوير الشباب والعمل على ترقية الابتكار في أفريقيا.

font change