حكم تاريخي "دولي" ضد أحد قادة "الجنجويد"... ماذا يعني في السودان؟

ليست مجرد عقوبة فردية، بل سابقة قانونية

رويترز
رويترز
علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بـ"علي كوشيب"، أثناء جلسة محاكمته في لاهاي

حكم تاريخي "دولي" ضد أحد قادة "الجنجويد"... ماذا يعني في السودان؟

أصدرت المحكمة الجنائية الدولية يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول 2025 حكمها التاريخي بإدانة علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بـ"علي كوشيب"، أحد القيادات السابقة لميليشيا "الجنجويد"، في قضية تمثل اختبارا حاسما لمساءلة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

تشمل التهم التي أدين بها كوشيب27 تهمة تتصمن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مثل القتل الجماعي والاغتصاب والتعذيب والتهجير القسري والنهب والاضطهاد، التي ارتكبت في إقليم دارفور غرب السودان خلال الفترة بين أغسطس/آب 2003 وأبريل/نيسان 2004، وتمثل هذه الإدانة سابقة قانونية هامة في مساءلة قادة الميليشيات عن انتهاكات القانون الدولي. وإدانة كوشيب ليست مجرد عقوبة فردية، بل هي جرس يدق إيذاناً بانتهاء عصر الجنجويد بكل أشكالهم وتمظهراتهم.

لطالما ارتبط اسم علي كوشيب بأحد أكثر الفصول إيلاماً في تاريخ دارفور، حيث استندت محاكمته في لاهاي على فظائع منظمة تم ارتكابها ضد المدنيين. خلال المحاكمة، استمع العالم لشهادات صادمة من الناجين رووا كيف دمرت قرى بأكملها، وتم ذبح الرجال والأطفال، وتعرضت نساء وفتيات للاغتصاب، وتناثرت الجثث في حقول الدمار، وهو نفس نهج الجرائم والانتهاكات التي تواصل "قوات الدعم السريع" اليوم ارتكابها في حرب السودان الحالية، حسب تقارير نشرت عنها.

وتكشف هذه المحاكمة عن الارتباط العضوي بين جرائم الماضي وانتهاكات الحاضر، ففي عام 2013، لم تقم حكومة البشير بحل ميليشيا "الجنجويد" بل رفعت مكانتها ومنحتها وضعية شبه رسمية عندما قامت بتأسيس "قوات الدعم السريع" والتي أراد لها البشير أن تكون ميليشيات خاصة به، وهو ما وفر لها موارد أكبر وحصانة أكبر واتصالات خارجية كلها ساهمت في صناعة الميليشيات التي هي عليه الآن. ولكن لم يشكل هذا التحول أي تغيير في الأساليب الإجرامية التي اعتنقت ممارستها منذ تكوينها الأول.

التوثيق للجرائم التي يحقق فيها الادعاء في لاهاي، والتقارير الأممية التي توثّق الجرائم في الخرطوم ودارفور وكردفان، تُنذر بأن ساعة الحساب آتية لا ريب فيها

وكان كوشيب يعمل ضمن شبكة القيادة التي أنتجت محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد "الدعم السريع" حاليا الذي بدأ مسيرته كـ"تاجر" للمواشي قبل أن يصبح أحد أبرز قادة الميليشيات، مستفيدا من دعم نظام البشير لقمع الصراع المسلح في دارفور. وقد استفاد حميدتي مباشرة من نظام الإفلات من العقاب الذي جسده كوشيب في مراحله الأولى.

حاليا، تواصل "قوات الدعم السريع" وهي التمظهر الحالي لـ"الجنجويد"،  ارتكاب انتهاكات ممنهجة عبر أرض السودان، متجاوزة حدود دارفور لتصل إلى العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، في سياق الحرب التي اندلعت في أبريل 2023. ويتحدث معارضون لها، عن انتهاكات من القتل الجماعي إلى الانتهاكات الجنسية إلى العنف العرقي والاستهداف الإثني. لكن ما يبعث على قلق المراقبين، بشكل خاص هو استخدام التجويع كسلاح حرب ممنهج، حيث تحاصر "قوات الدعم السريع" مدنا مثل الفاشر الصامدة لأكثر من 18 شهرا، وتمنع تدفق المساعدات الإنسانية، وتدمر المزارع والمخازن، مما يدفع بملايين السودانيين نحو هاوية المجاعة. هذا التكتيك ليس عشوائيا بل يشكل جريمة حرب مقصودة تهدف إلى إخضاع السكان أو إبادتهم، وفقا لتقارير أممية.

ومع صدور هذا الحكم، تتجه الأنظار إلى مصير محمد حمدان دقلو  وشقيقه عبد الرحيم، وبقية قادة "قوات الدعم السريع" الذين يبدو أنهم يسيرون على خطى "الجنجويد". فمحاكمة كوشيب في لاهاي، تعني بداية أفول زمن "الجنجويد"، بما فيه من أمراء حرب يلوذون بالذهب والدعاية والرعاية الأجنبية.

رويترز
علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بـ"علي كوشيب"، في طريقه لحضور الجلسة

إن التوثيق للجرائم التي يحقق فيها الادعاء في لاهاي، والتقارير الأممية التي توثّق الجرائم في الخرطوم ودارفور وكردفان، تُنذر بأن ساعة الحساب آتية لا ريب فيها. ويقول مراقبون، إنه كما لم ينجُ كوشيب بعد عقدين من الجرائم، فإن المجرمين سيلاقون مرآة التاريخ والعدالة، التي لا تمحوها كثافة السلاح ولا يوقفها المال السياسي ولا الدعاية المأجورة.

الحكم على كوشيب ليس فقط عن الماضي، بل إعلان عن نهاية حقبة وبداية أخرى. ورغم العواصف التي تواجهها المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك هجمات من دول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، تثبت إدانة كوشيب قدرة المحكمة على الاستمرار في رسالتها الأساسية: محاسبة الجناة بغض النظر عن الضغوط السياسية في عالم يغلب فيه منطق القوة على سيادة القانون.

لم تبدأ مأساة السودان مع الصراع الحالي، بل بدأت عندما سمح العالم بإفلات جرائم مثل تلك التي ارتكبها كوشيب من العقاب، مما مكن الميليشيات من النمو والتحول إلى قوى مدمِّرة تهدد الآن استقرار السودان والمنطقة بأسرها.

font change