حين خسرنا تحولات التسعينات

حين خسرنا تحولات التسعينات

استمع إلى المقال دقيقة

في أوائل تسعينات القرن المنصرم، مع سقوط الاتحاد السوفياتي، بدأت مختلف المجتمعات العالمية بالتخلي عن أسئلتها وشواغلها التقليدية القديمة، التي سيطرت عليها أثناء مرحلة الحرب البادرة، المتمركزة حول أشياء من مثل المسألة الطبقية ومستقبل الحركات الثورية والقومية العرقية والمواجهة بين الكتل العالمية الكبرى والجدران الحديدية والعزلة الثقافية بين الدول والمجتمعات. فبسقوط الكتلة الشرقية، انهار النموذج الذي كان له أن يُقدم أطروحات بديلة في ذلك السياق، أقله على المستوى النظري والسياسي، ذلك التبدد الذي سماه فوكوياما "نهاية التاريخ".

حينئذ، لم تكن منطقتنا قد شهدت تلك التجارب والأسئلة أساساً، حتى تتجاوزها. فالمسألة الإسرائيلية-العربية، وإلى جانبها النقاش الفائض حول مكانة الدين في حيزي السلطة والدولة، شغلا الحيز الأكبر من عوالم مجتمعاتنا ومخيلتها السياسية. فالمسألتان كانتا أكثر ما يجري في المنطقة، والفاعل الأكثر حيوية لإعادة بلورة ما يتدفق ويتسرب إلينا من العالم الخارجي من تلك الأسئلة. وبسببهما كانت الجغرافيا الأكثر عوزا بطروحات الحرب الباردة نفسها، فالدول السلطانية والمجتمعات القائمة على العصبيات الخلدونية، كانت ما تعيشه ربوعنا.

لأجل ذلك، كانت المنطقة الأكثر بُعدا ولامبالاة بالثورات التي شهدتها مختلف المجتمعات العالمية منذ أوائل التسعينات، التي حدثت في بقاع وأقاليم مطابقة لنا في قلة التحديث وعوز التنمية، مثل أميركا الجنوبية وشرقي قارتي آسيا وأوروبا، وحتى أواسط القارة الأفريقية.

بعد عقدين من الزمن، وحين اندلعت ثورات شبيهة في منطقتنا، كانت فاقدة لكل قيم وأدوات امتلكتها هبّات التغيير الجذرية التي حدثت في أوائل التسعينات، إذ لم تحقق ثوراتنا أية مستويات من استقلال المجالات الوطنية، بل على العكس تماما، تحولت إلى حروب أهلية وجغرافية مقنعة، أعادت تكريس الأسئلة الأكثر بدائية، وكانت مطابقة لما انتفضت ضده، من سمات ثقافية ونزعات سياسية وخيارات روحية.

مع تأسس الفشل الكلي في منطقتنا، كانت بقاع العالم التي شهدت ثورات التسعينات، تضج بأسئلة ثقافية وشواغل سياسية جديدة تماماً، من المستحيل أن تكون حاضرة وذات قيمة في مجتمعاتنا راهناً.

البقاع التي شهدت ثورات التسعينات، تنضح اليوم بأشياء مثل المسألة النسوية، التي لم تعد مجرد ترف ثقافي أو مجتمعي تمارسه نُخبة من نساء الطبقة العليا فحسب، بل صارت جوهراً وقيمة وخياراً لا بُد من طرحه في كل انتظام سياسي أو فعل حكومي أو إصدار تشريعي، حتى صارت خيارات وتقييم المصوتين للأحزاب المتنافسة في دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا، ومثلها بلدان ثورات التسعينات، قائمة على ذلك الخيار بشكل حيوي. وإلى جانبها، فإن الحريات الجسدية والحق في الولاية على الذات والقضية البيئية والتغيرات المناخية المُرعبة وتعريف الانتماء الوطني والواجب الأخلاقي تجاه الأجيال المقبلة وحدود تدخل الدولة في الحياة العامة، وحتى دور الإنسان ومعناه أساسا، في ظلال التطورات التكنولوجية وبروز موجة رابعة من التواصل البشري، متمثلة في آليات "الذكاء الاصطناعي"، أسئلة وأدوات تفكير وتحديد وتأطير يومية وذات دور على الحياة العامة.

بشكل تراجيدي، لا شيء من كل ذلك في ربوعنا، على الرغم من موت القضيتين اللتين شغلتاه طويلا. فالمسألة الإسرائيلية-الفلسطينية اليوم تحولت إلى قضية داخلية خاصة بمجتمعات جغرافيا فلسطين فحسب، وليست قضية عامة عارمة الحضور الأيديولوجي والسياسي في مختلف بلدان المنطقة. فيما فقد الإسلام السياسي بمختلف تجاربه ونزعاته طاقته، حتى صار أكثر أعضائه تطرفا متيقنين بأن دولة مدنية بسلطة محافظة هي أعلى ما يمكن تحقيقه.

قبل ثلث قرن، كانت مجتمعات هذه المنطقة معزولة تماماً عن الأسئلة الرئيسة لعصر الحرب الباردة، وغارقة في قضيتي الصراع الإسرائيلي وموقع الدين وتعريفه

قد يُقدم ذلك تفسيرا ما للفشل العام الذي أصاب موجة ثورات الربيع العربي، وإلى جانبها فشل هبات جماهيرية حدثت في دول مثل تركيا وإيران. إذ ثمة فوات تاريخي متعدد الأوجه، مرتبط بما يمكن تسميته نوعية شواغل المجتمع وأسئلة المتن العام، التي تفرز كل الممارسات والتنظيمات والخيارات والتحركات في الفضاء العام، المتأتي بكليته من عزلتنا عن أحداث تحولات بداية التسعينات. 
قبل ثلث قرن، كانت مجتمعات هذه المنطقة معزولة تماماً عن الأسئلة الرئيسة لعصر الحرب الباردة، وغارقة في قضيتي الصراع الإسرائيلي وموقع الدين وتعريفه بالنسبة للفضاء السياسي/السلطوي، ولأجلهما خسرت طورا من التحديث السياسي والفكري والمجتمعي، وبسببهما كانت خارج السياق الكلي لتبدلات ما بعد الحرب الباردة، حيث تمكنت مختلف الدول والأقاليم من تشييد فضاءات وطنية قائمة، تشييد الدولة التعاقدية وحتمية الحريات العامة وإعادة هيكلة الاقتصاديات لتكون أكثر ليبرالية وإنتاجية، مع تجارب متفاوتة من تحقيق التمثيل السياسي للمجتمعات في النواة الصلبة للسلطة.
بالمستوى نفسه، فإن هذه المجتمعات معزولة اليوم عن أسئلة الحياة السياسية والثقافية والروحية المعاصرة، إما جاهلة بها وإما غائبة عنها، وفي مستويات غير قليلة تعتبره مجرد ترف فلسفي وفكري وسياسي ليس إلا. لكنها في جميع الأحوال لا تبالي بقدرة هذه الأفكار على صياغة أشكال جديدة من التآزر والاصطفاف والفعل الجمعي، لإنتاج ما هو لصالح الخير العام والمستقبل المشترك، بأوسع قدرة على تأسيس السلام المجتمعي العام. 
تهميش هذه الأسئلة سيؤدي مباشرة للنكوص إلى أشكال التمركز الأكثر بدائية، التي سبقت عصر الحرب الباردة نفسه، العائلة والعشيرة والطائفة والمنطقة، إلى المعتقدات بوصفها هويات وقلاعا للصراع، لا رؤى لتشييد عالم أكثر رحابة وأقل قسوة.

font change