نوبل 2025... لحظة "التوحيد الكبرى" في الفيزياء الحديثةhttps://www.majalla.com/node/327717/%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D9%88%D8%AA%D9%83%D9%86%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7/%D9%86%D9%88%D8%A8%D9%84-2025-%D9%84%D8%AD%D8%B8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A8%D8%B1%D9%89-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D8%A9
مثلت جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2025 نقطة فاصلة في تاريخ فيزياء الكم وتطبيقاتها العملية، إذ أعادت تأكيد وحدة القوانين الطبيعية التي تحكم المادة في مختلف المقاييس، من أصغر الجسيمات تحت الذرية إلى الأنظمة الكهربائية الكبيرة التي يمكن لمسها ومراقبتها مباشرة.
وقد منحت الجائزة لهذا العام إلى ثلاثة من أبرز الفيزيائيين التجريبيين: جون كلارك، وميشال ديفوريه، وجون مارتينيس، تكريما لاكتشافهم وإثباتهم ظاهرتين أساسيتين في عالم الكم على نطاق مادي مرئي، النفق الكمي الماكروسكوبي وتكميم الطاقة في الدوائر الكهربائية الفائقة التوصيل.
جاءت أهمية هذا الاكتشاف من كونه جسر فجوة طويلة بين عالمين، العالم المجهري الذي تخضع فيه الجسيمات لقوانين ميكانيكا الكم، والعالم الماكروسكوبي الذي تهيمن عليه القوانين الكلاسيكية لنيوتن وماكسويل. فحتى وقت قريب، كان الاعتقاد السائد أن الظواهر الكمية لا يمكن أن تظهر بوضوح إلا على مستوى الجسيمات المفردة كالذرات أو الإلكترونات أو الفوتونات. لكن تجارب كلارك وزملائه أثبتت أن هذه القوانين يمكن أن تطبق على نظام يحتوي على عدد هائل من الجسيمات المتفاعلة، شريطة أن تعزل الظروف التجريبية بعناية كافية لتقليل التفاعلات مع البيئة المحيطة.
النفق الكمي
يعد مبدأ النفق الكمي من أكثر الظواهر غرابة في ميكانيكا الكم، وقد نشأ مباشرة من معادلة شرودنغر الموجية التي صاغها الفيزيائي النمساوي إرفين شرودنغر عام 1926. تنبأت حلول هذه المعادلة بإمكان وجود دالة موجية للجسيم تمتد داخل مناطق تعتبر "ممنوعة" من الناحية الكلاسيكية — أي مناطق تكون فيها طاقة الجسيم أقل من الحاجز الطاقي المحيط به. فبينما تفترض الفيزياء الكلاسيكية أن الجسيم لا يمكنه عبور حاجز طاقي أعلى من طاقته الكلية، تشير ميكانيكا الكم إلى أن هناك احتمالا محدودا لأن "يتسرب" الجسيم عبر هذا الحاجز، لأن دالته الموجية لا تنعدم داخله بل تتناقص أسيا، وتستمر على الجهة الأخرى منه.
هذه النتيجة النظرية بدت في البداية مجرد فضول رياضي، لكنها سرعان ما أثبتت فعاليتها في تفسير واحدة من أعقد الظواهر الفيزيائية في ذلك الحين، التحلل الإشعاعي. ففي عام 1928، استخدم الفيزيائي الروسي جورج غاموف فكرة النفق الكمي لتفسير عملية الاضمحلال ألفا في الأنوية الثقيلة، حيث تنبعث جسيمات ألفا -وهي نوى الهيليوم- من داخل النواة رغم أن طاقتها لا تكفي لتخطي الحاجز الكهروستاتيكي القوي الذي يفترض أن يحبسها. وقد أوضح غاموف أن هذه الجسيمات "تنفذ" من الحاجز بفعل النفق الكمي، وأن احتمال حدوث ذلك يحدده شكل الحاجز وارتفاعه وسماكته. وبهذا، قدم أول تفسير كمي لعملية نووية لم يكن ممكنا فهمها في الإطار الكلاسيكي.
في حلول منتصف القرن العشرين، بدأت تطبيقات النفق الكمي تتجاوز المجال النووي لتشمل الإلكترونيات والفيزياء الصلبة
منذ ذلك الحين، أصبح النفق الكمي ظاهرة أساسية في فيزياء الجسيمات والمادة الصلبة على السواء. فبدونه، لا يمكن تفسير العديد من العمليات الطبيعية، بما في ذلك اندماج البروتونات في باطن الشمس. فعلى الرغم من أن درجة الحرارة والضغط في قلب الشمس لا تكفيان — بحسب الحسابات الكلاسيكية — لتغلب بروتونين على قوة التنافر الكولومبي بينهما، إلا أن النفق الكمي يتيح لهما احتمالية صغيرة للاندماج، وهي احتمالية كافية لإبقاء نجم بحجم الشمس مشتعلا لمليارات السنين.
من الظواهر النووية إلى المواد الصلبة
في حلول منتصف القرن العشرين، بدأت تطبيقات النفق الكمي تتجاوز المجال النووي لتشمل الإلكترونيات والفيزياء الصلبة. ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تطورت نظرية التوصيل الفائق بفضل نظريات جون باردين وليون كوبر وروبرت شريفر، الذين قدموا في عام 1957 نظرية الـ BCS الشهيرة التي فسرت كيف يمكن الإلكترونات — وهي في الأصل جسيمات فيرميونية تتنافر في ما بينها — أن تتزاوج في درجات حرارة منخفضة جدا لتكون ما يعرف بـ"أزواج كوبر".
تتصرف هذه الأزواج كوحدات بوزونية يمكنها أن تتكاثف في حالة كمومية جماعية واحدة تعرف بـ"تكاثف بوز-أينشتاين" حيث تتحرك الإلكترونات بانسجام تام من دون أي مقاومة كهربائية. هذا السلوك الجمعي أوجد مفهوما جديدا في الفيزياء، وهو وجود دالة موجية كلية للنظام بأكمله تمثل "المعامل النظامي" الذي يصف حالة النظام الفائق التوصيل.
قدم الفيزيائي البريطاني برايان جوزفسون عام 1962 تنبؤا بالغ الأهمية، أنه إذا تم فصل مادتين فائقتي التوصيل بطبقة رقيقة من مادة عازلة، فإن أزواج كوبر يمكن أن تنفذ كموميا عبر هذا الحاجز العازل، مولدة تيارا كهربائيا من دون أي جهد كهربائي مطبق. هذه الظاهرة سميت بـتأثير جوزفسون، وتم تأكيدها تجريبيا عام 1963 في مختبرات بيل. وفي حلول عام 1973، حصل جوزفسون على جائزة نوبل تقديرا لهذا الاكتشاف الذي وضع الأساس لتكنولوجيا القياسات الفائقة الدقة المعروفة باسم جهاز التداخل الكمي الفائق SQUID.
من الحالة الميكروسكوبية إلى الماكروسكوبية
حتى سبعينيات القرن الماضي، كان يعتقد أن التأثيرات الكمومية لا يمكن ملاحظتها إلا على مستوى الجسيمات المنفردة أو الأنظمة الصغيرة جدا. غير أن بعض الفيزيائيين، وفي مقدمهم أنتوني ليغت، الحاصل على نوبل الفيزياء عام 2003، طرحوا تساؤلا جريئا: هل يمكن أن تظهر ظواهر كمومية واضحة في أنظمة كبيرة الحجم، تتكون من عدد هائل من الجسيمات لكنها تعمل كوحدة واحدة؟
في عام 1978، اقترح ليغت إمكان رصد نفق كمي ماكروسكوبي في أنظمة فائقة التوصيل، مثل وصلة جوزفسون، عند درجات حرارة منخفضة جدا في نطاق الميلي كلفن. وأظهر من خلال حساباته النظرية أن النظام الذي يتكون من مليارات أزواج كوبر قد يتصرف كما لو أنه جسيم كمومي واحد محصور داخل "بئر طاقية"، يمكنه أن "ينفذ" من هذه البئر من طريق النفق الكمي. وبالتعاون مع تلميذه أمير كالديرا وضع نموذجا يصف تأثير الارتباط الضعيف مع البيئة المحيطة على معدلات هذا النفق، وهو ما عرف لاحقا بـ"نموذج كالديرا–ليغت للتبديد الكمومي"، الذي أصبح أداة أساسية في دراسة الأنظمة الكمومية المفتوحة.
بهذه الأعمال، مهد ليغت الطريق للتجارب التي ستغير لاحقا فهم الفيزيائيين للحد الفاصل بين الميكروسكوب والماكروسكوب. وكان السؤال الحاسم الذي واجه العلماء هو هل يمكننا بناء نظام كهربائي كبير بما يكفي ليمسك باليد، لكنه في الوقت نفسه يظهر سلوكا كموميا صرفا مثل النفق وتكميم الطاقة؟
تعد وصلة جوزفسون من أكثر الاكتشافات تأثيرا في تاريخ فيزياء الحالة الصلبة، إذ فتحت الباب أمام تطبيقات غير مسبوقة لميكانيكا الكم في أنظمة كهربائية يمكن تصنيعها واختبارها في المختبر
وهكذا، في أوائل الثمانينيات، بدأت محاولات فعلية للإجابة عن هذا السؤال. وسيكون النجاح فيها على يد فريق جامعة كاليفورنيا في بركلي بقيادة جون كلارك، ومعه ميشال ديفوريه وجون مارتينيس — وهو النجاح الذي توج بعد أربعة عقود بجائزة نوبل لعام 2025.
وصلة جوزفسون… بوابة تربط بين العالمين الكلاسيكي والكمومي
تعد وصلة جوزفسون من أكثر الاكتشافات تأثيرا في تاريخ فيزياء الحالة الصلبة، إذ فتحت الباب أمام تطبيقات غير مسبوقة لميكانيكا الكم في أنظمة كهربائية يمكن تصنيعها واختبارها في المختبر، تتكون هذه الوصلة من طبقتين من مادة فائقة التوصيل يفصل بينهما حاجز بالغ الرقة من مادة عازلة، عادة لا يتجاوز سمكه بضعة نانومترات.
في الظروف العادية، يفترض أن هذا الحاجز يمنع مرور التيار الكهربائي كليا، لكن ظاهرة النفق الكمي تغير القواعد، فأزواج الإلكترونات في المواد الفائقة التوصيل – المعروفة باسم أزواج كوبر – قادرة على "العبور" من خلال هذا الحاجز دون الحاجة إلى أي جهد كهربائي خارجي. والنتيجة أن تيارا كهربائيا يمكن أن يتدفق من دون أي فقد للطاقة، في صورة تجسد الطبيعة الكمومية للحالة الفائقة التوصيل.
نوبل الفيزياء 2025
المفتاح لفهم هذه الظاهرة هو فكرة "الطور الكمومي" للموجة التي تمثل النظام بأكمله. في كل موصل فائق، توصف الحالة الكمومية بدالة موجية ذات طور معين. وعندما تقرب موصلين فائقين يفصل بينهما حاجز عازل، تنشأ بين الطورين علاقة تداخل دقيقة هي التي تحدد مقدار التيار الذي يعبر.
هذا الترابط بين الطور والتيار هو ما يجعل وصلة جوزفسون نظاما كموميا بالمعنى الكامل للكلمة، إذ يتحكم "الطور" في سلوك النظام، تماما كما يتحكم الموضع في حركة جسيم داخل مجال معين.
يمكن القول ببساطة إن الوصلة تعمل كأنها "جسيم" يتحرك داخل تضاريس من الطاقة على هيئة سلاسل من التلال والوديان، تمثل حالات مستقرة وأخرى غير مستقرة. وعندما يكون التيار ضعيفا، يبقى النظام في إحدى الوديان، في حالة مستقرة لا يظهر فيها أي جهد كهربائي. لكن مع زيادة التيار أو بفعل مؤثر خارجي، يستطيع النظام أن "يهرب" من هذا الوادي إلى آخر، وهو ما يظهر تجريبيا كتحول مفاجئ من حالة الجهد الصفري إلى حالة بها جهد كهربائي.
في الحالة الكلاسيكية، لا يمكن هذا "الهروب" أن يحدث إلا إذا امتلك النظام طاقة كافية لتسلق التل الذي يفصل بين الواديين، أي بفضل التحفيز الحراري. أما في الحالة الكمومية، فهناك احتمال ضئيل أن "يتسلل" النظام عبر الحاجز دون أن يتجاوزه طاقيا، وهي العملية التي تعرف باسم النفق الكمي.
وهنا تكمن روعة الفكرة. فالنظام بأكمله – المكون من بلايين الإلكترونات المقترنة في أزواج كوبر – يتصرف كما لو كان جسيما واحدا يقوم بعملية نفق كمومي. هذه ليست مجرد استعارة رياضية، بل حقيقة تم التحقق منها تجريبيا.
من الفكرة إلى التجربة: فريق بركلي يختبر المستحيل
في أوائل الثمانينيات، كانت هذه المفاهيم النظرية تبدو بعيدة عن التطبيق المباشر. لكن في جامعة كاليفورنيا ببركلي، كان البروفسور جون كلارك قد أسس مجموعة بحثية تهتم بدراسة الظواهر الفائقة التوصيل وخصائص وصلة جوزفسون بدقة بالغة. انضم إليه في ذلك الوقت الباحث الفرنسي الشاب ميشال ديفوريه بعد حصوله على الدكتوراه في باريس، كما انضم إلى المجموعة طالب الدكتوراه جون مارتينيس.
جمع الثلاثي بين خبرة كلارك في تصميم أجهزة القياس الفائقة الحساسية، وموهبة ديفوريه النظرية، وحماسة مارتينيس التجريبي، فكانوا فريقا مثاليا لمواجهة تحد علمي كان يبدو شبه مستحيل، إثبات أن النفق الكمي يمكن أن يحدث على نطاق مادي كبير. وصمم الفريق دائرة كهربائية فائقة التوصيل تحتوي على وصلة جوزفسون محاطة ببيئة شديدة العزل عن أي مؤثرات خارجية، سواء حرارية أو كهرومغناطيسية.
كان الهدف هو مراقبة الحالة التي تبقى فيها الدائرة بلا جهد كهربائي لفترة طويلة، ثم فجأة، دون أي زيادة في التيار، تظهر إشارة جهد صغيرة — علامة على أن النظام "هرب" من حالته المستقرة.
لكن السؤال الذي أرادوا الإجابة عنه هو: هل كان هذا الهروب نتيجة اهتزاز حراري؟ أم نتيجة نفق كمومي حقيقي؟
لحسم ذلك، قام الفريق بخفض درجة حرارة النظام تدريجيا إلى مستويات تقارب الصفر المطلق (أجزاء من الألف من الكلفن).
في هذه الظروف، تصبح الطاقة الحرارية ضعيفة جدا بحيث لا يمكنها تفسير أي هروب من الحالة المستقرة. ومع ذلك، استمروا في رصد قفزات مفاجئة في الجهد الكهربائي. وبتحليل إحصائي دقيق لمئات القياسات، وجدوا أن معدل حدوث هذه القفزات لا يعتمد على درجة الحرارة — أي أنها ليست حرارية المصدر — بل تتوافق تماما مع التوقعات الكمية لعملية نفق كمومي. وكانت هذه النتيجة ثورية بالمعنى العلمي.
فقد أثبتت للمرة الاولى أن نظاما مكونا من عدد هائل من الجسيمات (مليارات الإلكترونات المقترنة) يمكنه أن يظهر سلوكا كموميا صرفا كأنه جسيم واحد. وهذا الاكتشاف لم يفتح فقط فصلا جديدا في دراسة الظواهر الكمومية، بل أجبر الفيزيائيين على إعادة التفكير في الحدود الفاصلة بين العالمين المجهري والماكروسكوبي.
انعكاسات المفهوم الماكروسكوبي للنفق الكمي
لا تكمن أهمية تجربة بركلي في كونها مجرد إثبات تجريبي لظاهرة غريبة، بل في ما طرحته من تحد فلسفي عميق حول طبيعة الواقع الفيزيائي نفسه. ففي التجربة، لم يكن النظام مكونا من جسيم واحد، بل من كم هائل من الجسيمات التي تتصرف كوحدة واحدة.
ما يعنيه هذا هو أن الخاصية الكمومية — التي كنا نظنها حكرا على الذرات والإلكترونات — يمكن أن تتسع لتشمل أنظمة مادية يمكن رؤيتها بالعين المجردة. وهذه النتيجة أحيت النقاش القديم الذي أثاره إرفين شرودنغر في ثلاثينيات القرن الماضي عبر تجربة "القط الشهير"— ذلك الكائن الافتراضي الذي يمكن أن يكون حيا وميتا في الوقت نفسه إلى أن يرصد.
كانت تلك لحظة نادرة في تاريخ الفيزياء، لحظة انتقال المفهوم المجرد إلى دليل تجريبي ملموس.
لكن بدل أن تكون القصة مجرد مفارقة فكرية، جاءت تجربة كلارك ورفاقه لتقول: "نعم، في ظروف معينة، يمكن لنظام مادي كبير أن يعيش في حالة كمومية مزدوجة، تماما كما يفعل القط في خيال شرودنغر"، وبذلك، أصبحت وصلة جوزفسون منصة مثالية لاختبار الانتقال بين العالمين الكمي والكلاسيكي — بين حالات التراكب الكمومي وحالات الاستقرار الكلاسيكي.
مع مرور الوقت، أصبحت التجارب التي انطلقت من هذا العمل هي الأساس لتطوير الجيل الأول من الحواسيب الكمومية الفائقة التوصيل.
عندما قدم ماكس بلانك في عام 1900 فكرته الثورية عن أن الطاقة الإشعاعية لا تبعث ولا تمتص إلا في "كمات" صغيرة منفصلة، وضع بذلك حجر الأساس لما أصبح لاحقا ميكانيكا الكم. لكن رغم أن هذا المفهوم تم تأكيده لاحقا في الذرات والفوتونات، ظل تكميم الطاقة في الأنظمة الكبيرة مجرد افتراض رياضي لا دليل عليه.
وقد كانت تجربة بركلي في منتصف الثمانينيات أول اختبار حقيقي لهذا المبدأ على نطاق ماكروسكوبي يمكن قياسه بالأجهزة الإلكترونية. وكان النظام المستخدم عبارة عن دائرة فائقة التوصيل تحتوي على وصلة جوزفسون موصولة بعناصر كهربائية أخرى تضبط سلوكها. وكما في تجربة النفق، كان النظام عند تيارات منخفضة محتجزا داخل "بئر طاقية" تمثل حالته المستقرة ذات الجهد الصفري.
لكن هذه البئر نفسها ليست مستمرة من الداخل، بل تحتوي على مستويات طاقة مكممة، أي أن النظام يمكن أن يوجد في حالات طاقية منفصلة داخلها، كما لو كان إلكترونا داخل ذرة.
من هنا ظهرت الفكرة الأساس، فإذا كان النظام الكهربائي يعمل كمجموعة كمومية كبيرة، فينبغي أن يظهر امتصاصا وانتقالا بين مستويات الطاقة بطريقة متقطعة — أي أنه لا يمكنه امتصاص أي كمية من الطاقة إلا إذا كانت مساوية تماما للفارق بين مستويين كموميين داخله. ولتجربة هذه الفكرة، قام الفريق بتعريض النظام الفائق التوصيل إلى موجات ميكروية بترددات مختلفة، أي أشعة كهرو–مغناطيسية ذات طاقات متفاوتة.
نوبل الفيزياء 2025
في بعض الترددات لم يحدث شيء يذكر: بقي النظام في حالته المستقرة كما هو. لكن عند ترددات معينة تماما، لوحظ أن النظام أصبح أكثر عرضة لـ"الهروب" من حالته المستقرة إلى حالة الجهد، أي أن مدة بقائه في الحالة الأولى تقلصت بشكل واضح.
هذه الملاحظة كانت المفتاح لتفسير عميق فالموجات الميكروية عند تلك الترددات المحددة كانت تطابق الفارق بين مستويين طاقيين داخل البئر، فامتصها النظام وانتقل إلى مستوى أعلى من الطاقة. وبما أن النفق الكمي أسهل عند طاقات أعلى، فقد أصبح الهروب أكثر تكرارا. أما في الترددات الأخرى، فلم تتطابق طاقة الموجة مع أي فارق كمومي، فبقي النظام في حالته الأصلية. وبهذا الشكل البسيط والدقيق في الوقت نفسه، تمكن الفريق من إثبات وجود مستويات طاقة مكممة داخل دائرة كهربائية كبيرة بما يكفي لأن ترى بالعين المجردة.
كانت تلك لحظة نادرة في تاريخ الفيزياء، لحظة انتقال المفهوم المجرد إلى دليل تجريبي ملموس.
وقد أظهر تحليل البيانات أن الفوارق بين مستويات الطاقة تتوافق بدقة مدهشة مع القيم المحسوبة من نموذج كمومي للوصلة. بمعنى آخر، فكل التفاصيل التي كانت معروفة عن الجسيمات المفردة — كالذرات والفوتونات — ظهرت الآن في نظام يحتوي على عدد مهول من الإلكترونات. ولم يعد الأمر مجرد "تشابه" في السلوك، بل تطابق في القوانين. هذه النتيجة أكدت أن وصلة جوزفسون يمكن النظر إليها باعتبارها ذرة اصطناعية، تمتلك حالات طاقية محددة يمكن التحكم فيها من الخارج عبر الموجات الكهرومغناطيسية.
هذه "الذرة الكبيرة" يمكن أن تعمل كعنصر تجريبي يظهر التراكب الكمومي والانتقالات الطاقية في بيئة مصطنعة بالكامل، مما يتيح دراسة الظواهر الكمومية في نطاق يمكن هندسته وضبطه. ولعل أهم ما أظهرته تلك التجارب أن النظام لا "يسلك" كموميا في بعض الأحيان فقط، بل يظل كذلك دائما طالما ظلت البيئة المحيطة معزولة عنه حراريا وكهرومغناطيسيا.
أي أن التكميم والنفق لم يكونا ظاهرتين منفصلتين، بل وجهين لعملة واحدة، كلاهما نتيجة مباشرة لوحدة الحالة الموجية التي تحكم النظام بأسره.
لم تكن أهمية النتيجة في مجرد مشاهدتها، بل في ما أعادته من ثقة بين النظرية الكمومية والتجربة. فمنذ طرح ميكانيكا الكم، ظلت هناك فجوة بين ما يمكن تفسيره رياضيا وما يمكن اختباره فعليا. مع تجربة بركلي، أغلقت تلك الفجوة إلى حد كبير، لأن العلماء أصبح لديهم الآن نموذج فيزيائي ملموس — دائرة كهربائية بحجم السنتيمتر — يمكن أن يظهر خصائص كمومية كانت محصورة سابقا في الذرات.
أصبح في الإمكان للمرة الأولى "ضبط" هذه الخصائص كميا، وقياسها بدقة لم تكن متاحة في أي نظام ذري أو فوتوني. وهذا فتح الباب أمام علم جديد تماما، الكهروديناميكا الكمومية في الدوائر الكهربائية وهو المجال الذي يدمج بين ميكانيكا الكم والإلكترونيات الفائقة التوصيل.
في هذا المجال الجديد، تعامل الدائرة الكهربائية الفائقة التوصيل كمنظومة كمومية خاضعة لمعادلات مشابهة لتلك التي تصف الذرات والفوتونات في تجاويف الضوء. وبدلا من الاعتماد على الطبيعة لبناء الذرات، أصبح العلماء قادرين على "تصميمها" بأنفسهم على رقائق السيليكون.
هنا بدأت المفاهيم التجريبية تتحول إلى أدوات هندسية. فالأنظمة التي أثبت فيها كلارك وديفوريه ومارتينيس تكميم الطاقة أصبحت في ما بعد النواة الأولى لما يعرف الآن بـ"الذرات الاصطناعية" — مكونات كهربائية تظهر جميع خصائص الذرة الطبيعية لكن يمكن تعديل خصائصها بحرية.
هذه الذرات الاصطناعية هي التي شكلت اللبنة الأولى لما يعرف اليوم بـ"الكيوبتات الفائقة التوصيل" أي الوحدات الكمومية التي تبنى عليها الحواسيب الكمومية الحديثة. والحق أن كثيرا من المختبرات التي طورت هذه الأجهزة — ومنها مختبر "غوغل" الذي قاده مارتينيس لاحقا — اعتمدت مباشرة على المبادئ التي وضعها الثلاثي في بركلي عام 1984.
فما فعله هؤلاء العلماء لم يكن مجرد إثبات ظاهرة كمومية جديدة، بل خلق نوعا جديدا من "المادة الهندسية" مادة يمكنها أن تجمع بين خصائص الجسيمات الكمومية ودقة الأنظمة الإلكترونية الحديثة.
متى يتوقف الكم ويبدأ الكلاسيك؟
منذ بدايات القرن العشرين، كان من المألوف أن نقسّم الطبيعة عالمين منفصلين تقريبا، العالم الكمي، الذي تحكمه القوانين الغريبة للذرات والإلكترونات، والعالم الكلاسيكي، الذي نعيش فيه وتصفه قوانين نيوتن وماكسويل. لكن هذه القسمة كانت دائما غير مريحة من الناحية الفلسفية. فهل هناك "حد" حقيقي يفصل بين العالمين؟ أم أن الطبيعة تخضع لقانون واحد مستمر، وما الكلاسيكي إلا حالة خاصة من الكمومي؟ وقد أجابت تجربة بركلي عام 1984 عن هذا السؤال عمليا، لا فلسفيا فقط.
حين أظهر جون كلارك وميشال ديفوريه وجون مارتينيس أن نظاما كهربائيا يحتوي على عدد لا يُحصى من الإلكترونات يمكنه أن "ينفذ" كموميا من حاجز طاقي، أثبتوا أن القوانين الكمومية لا تختفي عند تكبّر النظام، بل تظل تعمل مادامت البيئة لا "تراقبه". بمعنى آخر، الفاصل بين العالمين ليس في الحجم أو الكتلة، بل في درجة التفاعل مع البيئة.
لنفهم التأثير العميق لتجارب نوبل 2025 على دراسة التماسك الكمومي، يجب أن نتذكر أن كل نظام كمومي يمكن وصفه بدالة موجية تمثل احتمالية وجوده في حالات مختلفة في الوقت نفسه. لكن هذه الدالة الموجية حساسة للغاية لأي اضطراب خارجي.
كلما كان النظام أكثر عزلة عن بيئته الحرارية والإشعاعية، استطاع أن يحتفظ بسلوكه الكمومي لفترة أطول. لكن بمجرد أن يتفاعل مع محيطه — كأن يمتص فوتون من الخارج أو تهتز إحدى الذرات المحيطة — تبدأ حالة التراكب الكمومي في الانهيار التدريجي نحو سلوك كلاسيكي. وهذه العملية تعرف اليوم باسم إزالة التماسك الكمومي وهي من أهم المفاهيم التي أُعيد اكتشافها وتأكيدها بفضل أعمال هذا الثلاثي.
لنفهم التأثير العميق لتجارب نوبل 2025 على دراسة التماسك الكمومي، يجب أن نتذكر أن كل نظام كمومي يمكن وصفه بدالة موجية تمثل احتمالية وجوده في حالات مختلفة في الوقت نفسه. لكن هذه الدالة الموجية حساسة للغاية لأي اضطراب خارجي.
فعندما يبدأ النظام بالتفاعل مع ملايين الجسيمات في محيطه — سواء عبر تبادل حرارة أو فوتونات أو اهتزازات — تتشوّش المراحل النسبية بين الحالات المختلفة، فيختفي التراكب الكمومي تدريجيا. عندها، يبدأ السلوك الكلاسيكي في الظهور.
في أنظمة الذرات والفوتونات، يحدث هذا بسرعة كبيرة جدا، لذلك يصعب رصد التراكب إلا لفترات قصيرة. لكن في نظام مثل وصلة جوزفسون، يمكن التحكم بعوامل البيئة بدقة استثنائية، لأن كل شيء — درجة الحرارة، والمجال المغناطيسي، والتيارات، وحتى الاهتزازات الميكانيكية يمكن ضبطه هندسيا، وهذا سمح لفريق بركلي برؤية التراكب والنفق على مستوى كبير، قبل أن ينهار التماسك.
وهكذا أصبحت وصلة جوزفسون، ومن بعدها الدوائر الفائقة التوصيل، مختبرا تجريبيا مثاليا لدراسة ظاهرة إزالة التماسك الكمومي. وتجارب كلارك وزملائه كانت أول دليل ملموس على أن فقدان التماسك ليس "قفزة فجائية" من الكم إلى الكلاسيكي، بل عملية تدريجية يمكن التحكم في سرعتها وشدتها.
الطبيعة لا تتبدل فجأة
قبل هذه التجارب بسنوات، قدم الفيزيائي البريطاني أنتوني ليغت نموذجا نظريا لتفسير ما يحدث عندما يتفاعل نظام كمومي مع بيئته. واقترح أن أي اقتران ولو ضعيف مع البيئة يؤدي إلى ما يشبه "احتكاكا كموميا" يقلل احتمالية النفق والتراكب بمرور الوقت. لكن لم يكن أحد قادرا على اختبار هذا النموذج تجريبيا لأننا لم نكن نملك نظاما كموميا يمكن عزله والتحكم فيه على هذا النطاق. وقدمت أعمال بركلي هذا النظام.
ومن خلال تعديل درجة حرارة البيئة المحيطة وتغيير شدة الحقول المغناطيسية، استطاع العلماء أن يلاحظوا كيف تتغير معدلات النفق عند تغيّر مستوى التفاعل البيئي. وجاءت النتائج متوافقة تماما مع نموذج ليغت، فكلما زادت الضوضاء البيئية، قلت احتمالية النفق الكمي، والعكس صحيح.
وبهذا، أصبحت التجربة تطبيقا حيا لفكرة أن القوانين الكلاسيكية ليست إلا "حدا كموميا" يظهر عند تزايد التفاعل مع البيئة. أي أن الطبيعة لا تعرف انقساما حادا بين عالمين، بل هي طيف مستمر من الحالات من التراكب الكمومي الكامل إلى السلوك الكلاسيكي البحت.
جون مارتينيس نفسه، أحد الفائزين بنوبل، كان لاحقا قائد مشروع "غوغل" للكومبيوتر الكمومي الذي حقق في عام 2019 ما عرف بـ"التفوق الكمي"
عندما أثبت الثلاثي أن النظام الكهربائي يمكن أن يُظهر نفقا كموميا وتكميما للطاقة، لم يكن أحد يتخيل أن هذه الفكرة ستصبح لاحقا حجر الأساس لتكنولوجيا الحوسبة الكمومية. لكن هذا ما حدث بالضبط.
فالدوائر الفائقة التوصيل التي استخدمت في تجربة بركلي، تشبه إلى حد كبير البنى المستخدمة اليوم في بناء ما يُعرف بـ"الكيوبتات" — وهي وحدات المعلومات في الحواسيب الكمومية، والتي تمثل حالتي الطاقة الدنيا والعليا "البتين الكموميين" 0 و1، ويمكن النظام أن يكون في تراكب بينهما في الوقت نفسه.
نوبل الفيزياء 2025
أحد أبرز التطبيقات التي انبثقت من تلك التجارب هو ما يعرف بـ"الكيوبت المعلق في بئر جوزفسون"، وهو نوع من الدوائر الكمومية تم تطويره في التسعينيات ثم تبنته شركات بحثية كبرى مثل "غوغل" و"آي بي إم".
جون مارتينيس نفسه، أحد الفائزين بنوبل، كان لاحقا قائد مشروع "غوغل" للكومبيوتر الكمومي الذي حقق في عام 2019 ما عرف بـ"التفوق الكمي"، عندما نفذ الحاسوب الكمي "سايكامور" عملية حسابية لم يستطع أي كومبيوتر كلاسيكي مجاراتها في الزمن نفسه. ويمكن القول إن تجربة عام 1984 لم تكن مجرد اكتشاف علمي، بل كانت النواة الأولى لثورة تكنولوجية غيّرت موازين القوى في الفيزياء والهندسة معا.
ما قامت به مجموعة بركلي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي — إثبات وجود نفق كمي ماكروسكوبي وتكميم طاقة واضح في دائرة كهربائية فائقة التوصيل — لم يبق كشفا معزولا في سجلات المختبر. على العكس، شكل هذا العمل حجر انطلاق لمنظومة بحثية وإنتاجية تقنية امتدت عقودا وتفرّعت إلى خطوط بحثية هندسية وأساسية في آن واحد.
فقد أظهرت التجارب أن دوائر كهربائية يمكن أن تتصرف كذرات اصطناعية أدت مباشرة إلى ولادة إطار يجمع بين ميكانيكا الكم والإلكترونيات الدقيقة. في هذا الإطار، لم تعد الذرات وحدها مصدرا للتفاعلات الكمومية مع الحقول الكهربائية والمجهريات، بل بات في الإمكان تصميم "ذرات" على رقائق إلكترونية تحمل خصائص قابلة للضبط، وتربطها تجاويف ميكروويفية أو خطوط ناقلة للذبذبات لدراسة ظواهر التفاعل الكمومي في نطاقات جديدة من التردد والطاقة.
كما أسست النتائج لتصميم وحدات معلومات كمومية (كيوبتات) تعتمد على توظيف المستويين الأدنى والأعلى كوضعي 0 و1، مع إمكان الحفاظ على تراكب بينهما. وعشرات التصاميم اللاحقة هي امتدادات هندسية وفكرية مباشرة للعمل الذي أكد إمكان وجود مستويات طاقية مكممة في دوائر فائقة التوصيل.
في قلب كل النقاشات النظرية والتقنية يكمن مبدأ بسيط لكنه عميق، فالكمومية ليست حالة محصورة بحجم النظام بل بمحكمات التفاعل مع البيئة. تجربة بركلي — والعمل الذي أعقبها — بينتا أن ما يفصل بين الظواهر الكمومية والظواهر الكلاسيكية ليس العتبة الحجمية بقدر ما هو "حقل المراقبة" البيئي، إذا أمكنك أن تبقي منظومة معزولة بدرجة كافية عن الضوضاء، فستظل القوانين الكمومية فاعلة حتى عندما يكبر النظام وتملأه بلايين الجسيمات.
هذا الإدراك يحوّل مفهومنا للواقع الفيزيائي، فالواقع الكلاسيكي الذي نعيش فيه هو حالة وسطى، نتيجة لتآزر معقد بين النظام وبيئته. والبحث الذي تقوده وصلة جوزفسون وتجارب بركلي، وفّر لبّا عمليا لاختبار هذا الانتقال، مما جعله نقطة تحول في تاريخ فيزياء الكم.
ويمكن القول إن منحة نوبل لعام 2025 تكريم لتلك اللحظة التي ابتكرت فيها "الجسيمات المصممة" — ذرات اصطناعية صنعت لتفعيل مبادئ الكم في بيئات قابلة للتحكم. هذا ليس إنجازا مجردا في المعرفة، بل تأسيس لبنية تقنية ستلعب دورها في مستقبل الحسابات والقياسات، وفي إعادة صوغ العديد من الأفكار الأساسية في الفيزياء.