دمشق و"قسد"… مفاوضات شائكة ومخاوف حرب نارها تتجاوز الحدود

نتيجة صفرية

غيتي
غيتي
رُفع أكبر علم سوري على أعلى سارية بارتفاع 110 أمتار في حديقة تشرين بالعاصمة السورية دمشق في 4 يونيو

دمشق و"قسد"… مفاوضات شائكة ومخاوف حرب نارها تتجاوز الحدود

بعد يوم من انتخابات البرلمان في سوريا والذي استُبعدت عنه مناطق "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) والسويداء، وقبل ساعات من وصول وفد من "قسد" برئاسة قائد "القوات" مظلوم عبدي بوساطة أميركية لعقد جولة جديدة من المفاوضات مع الحكومة السورية، اندلعت أعنف اشتباكات بين "قسد" والحكومة السورية على محور حيي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب يوم الاثنين 6 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.

الحكومة السورية قالت عبر قنوات غير رسمية إن الاشتباك بدأته قوات "قسد"، وأن الحكومة السورية اكتشفت نفقا لـ"قسد" تم حفره ليعطي قوات "قسد" القدرة على الوصول إلى خلف نقاط الجيش والأمن السوري في محيط حي الشيخ مقصود، فقامت بتفجيره وأغلقت المعابر المؤدية إلى الحيين، إلا أن "قسد" أرسلت عناصر لها بين المدنيين استهدفوا قوات الأمن العام. من جانبها، قالت "قسد" وعبر قنوات غير رسمية أيضا، إن الحكومة السورية هي التي بدأت الاشتباك وأنها استهدفت المدنيين الذين كانوا يحتجّون على إغلاق المعابر.

وقد استهدفت "قسد" بقذائف هاون حي سيف الدولة في حلب، واستهدفت أيضا أحياء سكنية في محيط حيي الشيخ مقصود والأشرفية، واندلعت اشتباكات أسفرت عن سقوط جرحى وقتلى في صفوف الطرفين، إضافة إلى إصابة ثمانية مدنيين نقلوا إلى مشفى الرازي، وبعد ساعات من الاشتباك توصل الطرفان إلى اتفاق وقف إطلاق نار لتبدأ الأمور بالعودة إلى طبيعتها تدريجيا، مع استمرار الحكومة السورية إغلاق المعابر مع الحيين باستثناء معبر واحد.

الاشتباك العنيف بين الطرفين وقع في منطقة تُعد خاصرة ضعيفة لكل من "قسد" والحكومة السورية، فـ"قسد" لا تمتلك خطوط إمداد إلى المنطقة، والحكومة السورية تعلم أن الحيين يقعان في منطقة سكنية سيؤدي الاشتباك فيها إلى خسائر مدنية إذا ما استمرت "قسد" باستهداف الأحياء، ولذلك فإن الطرفين وافقا على وقف إطلاق النار لتجنب الخسائر. وفي الوقت نفسه أظهر كل طرف قدرته العسكرية أمام الآخر، في محاولة لتقوية الأوراق التفاوضية خلال اللقاء الذي تم يوم الثلاثاء 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الجاري، والذي انحرف مساره عن نقاش آليات تنفيذ اتفاق 10 مارس/آذار بين الرئيس السوري أحمد الشرع ومظلوم عبدي، إلى الحديث عن وقف إطلاق النار بين الطرفين، وقال وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة عقب لقائه مع عبدي في دمشق، إن الطرفين اتفقا "على وقف شامل لإطلاق النار بكافة المحاور ونقاط الانتشار العسكرية شمال وشمال شرق سوريا، على أن يبدأ تنفيذ هذا الاتفاق فوريا"، في حين لم تحقق الاجتماعات أي خرق يُذكر في مسار تفعيل عملي لاتفاق مارس بين الطرفين.

الاشتباك العنيف بين الطرفين وقع في منطقة تُعد خاصرة ضعيفة لكل من "قسد" والحكومة السورية

لم يكن اشتباك يوم الاثنين هو الأول، لكنه الأعنف، منذ اتفاق 10 مارس، إذ سبقه كثير من حالات الاشتباكات المتقطعة على محاور دير الزور ومناطق التماس شمال سوريا. تبادل إطلاق نار بين الطرفين بين آونة وأخرى انتهت باشتباكات طويلة على أطراف حيي الشيخ مقصود والأشرفية، فتحت الأبواب أمام أسئلة كثيرة حول الغاية من هذه الاشتباكات، هل هي محاولات لإظهار قوة عسكرية لتحسين شروط التفاوض بين الطرفين، أم إنها مقدمات لحرب يحاول الجميع تجنبها، وتتوسط دول إقليمية ودولية للحيلولة دونها، إضافة إلى أسئلة حول تداعيات هذه الحرب على سوريا، والإقليم، والأمن الدولي.  

مفاوضات مُعقّدة  

لم تؤد الاجتماعات التي عُقدت في دمشق والتي حضرها كل من مظلوم عبدي مع الحكومة السورية إلى الاتفاق على أي خطوات فعلية لإنهاء الاستعصاء الحاصل بين الطرفين، سيّما وأن المهلة التي حددها اتفاق مارس قاربت على الانتهاء، وشبح الاشتباك العسكري الشامل بات أقرب من أي وقت مضى. وبحسب معلومات "المجلة" فإن الجانب الأميركي حاول إقناع الطرفين لحلحلة الخلافات، إلا أن النتيجة كانت صفرية، رغم اتفاق الأطراف على دراسة خيارات تطبيق جزئي للاتفاق في الأسابيع القليلة القادمة، إلا أن ذلك يبقى بعيد المنال في ظل تخبط داخلي في "قسد" حيال طبيعة التوافقات الممكن تحقيقها مع دمشق مع ضمان نفوذ عسكري وسياسي لـ"قسد" في شكل الحكم في سوريا، على أن يكون الأخير مبنيا على اللامركزية. كما أن ما يُعرقل التفاهمات بين دمشق و"قسد" هو وجود أطراف ضمن "قسد" تُفضل الذهاب نحو الحل العسكري أكثر من الدخول في المسار السياسي التفاوضي من جهة.

أ ف ب
الرئيس السوري أحمد الشرع (يمين) والقائد العام لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) مظلوم عبدي يوقعان اتفاقية لدمج "قوات سوريا الديمقراطية" في مؤسسات الدولة، دمشق، 10 مارس 2025

المبعوث الأميركي توم باراك قال في تصريحات صحافية إنه أجرى لقاءات "رائعة" مع الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي في دمشق الثلاثاء 7 أكتوبر/تشرين الأول، وأضاف أنه اتفق مع الرئيس الشرع ومظلوم عبدي على وقف إطلاق النار، كما ناقش مع الشرع "تنفيذ اتفاق 10 مارس"، وعدّ أن "كل الأمور تسير بالاتجاه الصحيح". في المقابل أظهرت التصريحات التركية اليوم عدم حصول خرق في عملية التفاوض، إذ جاء في بيان وزارة الدفاع التركية أن القوات المسلحة التركية ربما تتدخل في حال تصاعد الصراع بين الحكومة السورية و"قسد". وأشارت إلى أنها مستعدة لتنفيذ عملية عسكرية مشتركة مع الجيش السوري، وأن المهلة النهائية لاندماج "قسد" ضمن صفوف الجيش السوري تنتهي مع نهاية العام الحالي.

ما يُعرقل التفاهمات بين دمشق و"قسد" هو وجود أطراف ضمن "قسد" تُفضل الذهاب نحو الحل العسكري أكثر من الدخول في المسار السياسي التفاوضي

وتريد "قسد" بكل الممكنات تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية خلال عملية التفاوض، سيّما أنها تلقت إشارات عديدة من الجانب الأميركي بضرورة إبداء ليونة في علمية التفاوض مع دمشق، كان آخر تلك المؤشرات خلال اللقاء الذي جمع كل قائد القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM) براد كوبر والمبعوث الأميركي إلى سوريا توم باراك يوم الاثنين 6 أكتوبر مع مظلوم عبدي وقادة من "قسد"، حيث علمت "المجلة" أن كوبر أكد على ضرورة البدء في حلحلة التوافقات الأمنية بين "قسد" ودمشق، وذلك رغبة من واشنطن بضمان ما أمكن من الهدوء في سوريا في حال حصول توتر جديد بين واشنطن وإسرائيل من جهة وطهران من جهة أخرى في الفترة القادمة. كما أن واشنطن تريد إنهاء ملفي مخيم الهول وسجون "داعش" بأقرب وقت عبر نقل الأجانب إلى بلادهم، وهو أمر تحاول "قسد" عرقلته لأنه يُفقدها قوّة سياسية دولية تحتاجها خلال عملية التفاوض مع دمشق. وبحسب ما علمت "المجلة" أيضا فإن وفد "قسد" برئاسة مظلوم عبدي سافر مع كوبر وباراك إلى أربيل ثم إلى دمشق يوم الثلاثاء لإجراء لقاءات مع الحكومة السورية.

وبحسب المعلومات، فإن "قسد" تشترط وجود قوات فرنسية أميركية لضمان تنفيذ الاتفاقات مع دمشق، وبذلك تُبقي "قسد" الملف برعاية دولية، وتفتح المجال لمزيد من الوقت والتفاوض خلال فترة تراها "قسد" لا تخلف كثيرا عن الفترات التي سبقتها في ظل وجود قوى دولية على الأرض. الجانب الأميركي لم يُبد أي رد حول وجود قوى أخرى في المنطقة، لكنه أخبر "قسد" أنه موجود في المدى المنظور على الأراضي السورية لحين انتهاء مهمة مواجهة تنظيم "داعش" وتحقيق رؤية الرئيس الأميركي دونالد ترمب الخاصة بالسلام في الشرق الأوسط.

أ ف ب/ غيتي
قوات تركية في شمال شرقي سوريا

تعتقد واشنطن أن محاولة تنفيذ الاتفاق بشكل جزئي وتدريجي قد يكون مفتاحا لبناء الثقة بين دمشق و"قسد" ويُمهد لتنفيذ الاتفاقات بكليّتها، لذلك هي تعدّ أن دير الزور أو الرقة يمكن أن تكون مفاتيح لبناء الثقة، إلا أن "قسد" لا تريد تسليم دير الزور إلى الحكومة السورية، كون أن هذه الخطوة من الناحية العسكرية ستتسبب بفقدان "قسد" العازل المائي بينها وبين دمشق (نهر الفرات الذي يشطر محافظة دير الزور)، ويُعطي دمشق أفضلية من ناحية نقل العتاد العسكري والبشري إلى خطوط التماس دون وجود فجوة مائية من جهة، ويمنح دمشق أيضا قوّة بشرية أكبر من خلال العشائر الموجودة في مناطق دير الزور الخاضعة لسيطرة "قسد"، والتي لم تستطع الأخيرة كسب ودّها خلال السنوات الماضية.

إلهام أحمد مسؤولة الشؤون الخارجية في "الإدارة الذاتية" في شمال شرقي سوريا، نفت خلال مقابلة مع مجلة "المجلة" نهاية شهر سبتمبر/أيلول الماضي وجود مطلب أميركي للانسحاب من دير الزور والرقة وتسليمها للحكومة السورية، لكنّها قالت في المقابلة ذاتها إن الحديث عن الاندماج، وأضافت: "هناك طرح بأن نبدأ من دير الزور، وتتم مناقشة هذا الموضوع مع أهل دير الزور أنفسهم. هناك بالمنطقة مجلس محلي. المجلس المحلي يناقش، رؤساء العشائر بالمنطقة ووجهاء المنطقة يناقشون، والمثقفون يتم أخذ رأيهم في هذه الأمور، وهم على اطلاع بالنقاشات التي تدار حول دير الزور".

من جانبها فإن دمشق التي تواجه ضغوطا داخلية وإقليمية لحلّ إشكالية شرق الفرات، تحاول الضغط على "قسد"، لإظهار قوّتها وممكناتها، حيث أغلقت المعابر الستة الواصلة بين مناطق "قسد" والحكومة السورية في دير الزور مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري لفترة وجيزة، ما سبب شللا في الحركة المدنية والتجارية بين الطرفين، دمشق قالت للمدنيين في المنطقة إن الإغلاق جاء لأسباب أمنية، وتزامن ذلك مع وصول تعزيزات كبيرة إلى نقاط تمركز الحكومة السورية، عملية الإغلاق والتعزيزات يمكن قراءتها كرسائل من دمشق إلى "قسد"، والاشتباك الذي حصل في حلب يمكن قراءته أيضا كرسائل مزدوجة بين الطرفين، فكل طرف يحاول إظهار ممكناته العسكرية، بغية تقوية أوراقه التفاوضية.

بحسب المعلومات فإن "قسد" تشترط وجود قوات فرنسية أميركية لضمان تنفيذ الاتفاقات مع دمشق، وبذلك تُبقي "قسد" الملف برعاية دولية

موافقة دمشق على دخول "التحالف الدولي" ضد "داعش" هو عامل سياسي آخر يُعطي دمشق نفوذا أوسع في عملية حلحلة إشكالية شرق الفرات، فـ"قسد" اليوم هي الشريك الفعلي للتحالف الدولي في سوريا في مواجهة تنظيم "داعش"، وعدم وجود دمشق في "التحالف" يُبقي الدعم السياسي والعسكري موجها نحو "قسد"، وعلى الرغم من أن انضمام دمشق لـ"التحالف" هو مطلب أميركي أعلن عنه مسؤولون في واشنطن أكثر من مرة، إلا أنه مطلب سوري أيضا، ودمشق أبدت إيجابية في التنسيق مع واشنطن في أكثر من عملية برية تم تنفيذها في حلب وإدلب والبادية. وقد شارك الجانب السوري في العمليات التي نفذها التحالف الدولي من خلال جهاز وزارة الداخلية (الأمن العام) ولم تتدخل وزارة الدفاع في تلك العلميات، وهو ما يُثير التساؤل حول جاهزية وزارة الدفاع السورية (من ناحية البنية والتنظيم) كي تكون العامل الرئيس في العمليات في حال اكتمال خطوات انضمام دمشق إلى التحالف الدولي.  

تدافع بين دمشق و"قسد" على المستوى السياسي والعسكري، فكل جانب يريد تحقيق مكاسب يراها تناسبه وتناسب مستقبله، وتريد "قسد" ضمان نفوذ عسكري وإداري في مستقبل سوريا، ودمشق تريد توحيد الجغرافيا السورية وإنهاء حالة الكتل العسكرية غير الرسمية التي تُثقل خطواتها على المستوى السياسي والداخلي، إضافة إلى أن هذه الكتل تبقي أجزاءً من سوريا مفتوحة على التدخل الخارجي واستمرار حالة عدم الاستقرار في البلاد. أهداف متناقضة بين الطرفين، ليس سهلا تعبيد طريق التوافقات حولها، وربما يحتاج وقتا طويلا، إلا أن الإرادة الدولية لحلحلة هذا الملف قد تلعب دورا إيجابيا في تسريع التوافق بين الطرفين، وعدم الانجرار نحو مواجهة عسكرية شاملة، ستكون نتائجها كارثية على سوريا والإقليم والأمن الدولي.

أ.ف.ب
اللواء براد كوبر، قائد القيادة المركزية الأميركية، والمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، خلال لقائهما مع الرئيس السوري في دمشق، في 12 سبتمبر 2025

بركان نار داخلي إقليمي دولي  

دمشق و"قسد" تتحضران للخيار العسكري رغم نتائجه الكارثية، والرئيس السوري أحمد الشرع قال في تصريحات له، أعاد تكرارها مستشاره الإعلامي أحمد زيدان، إنه في حال فشل المفاوضات السياسية فإن كل الخيارات مطروحة بما فيها المواجهة العسكرية، كما أعلمت وزارة الدفاع الفرق العسكرية الموجودة على خطوط التماس مع "قسد" إبقاء الجاهزية القصوى في حال اندلاع معارك بين الطرفين، وذلك بسحب معلومات "المجلة". من جانبها زادت "قسد" من وتيرة التجنيد الإجباري في مناطقها، وفتحت الأبواب خلال الأشهر الماضية لمئات من عناصر النظام السابقين للانضمام إلى صفوفها وزعتهم على جبهات التماس مع الحكومة السورية، وذلك نتيجة الفراغ الذي تتوقع "قسد" حدوثه من ناحية انشقاقات في المكون العربي-الكردي والعشائري في حال اندلاع الحرب بينها وبين الحكومة السورية. وفي السطر الأوسط تقف جهود دولية حثيثة في محاولة منع اندلاع الحرب التي لن تكون نتائجها سهلة على الجهود الدولية لتعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، وعلى رأسها تطلعات ترمب لإنهاء الحرب في المنطقة.  

ومن غير المتوقع أن تكون شرارة الحرب في دير الزور، لصعوبة الجبهة على الحكومة السورية كون المنطقة تحتوي على فجوة مائية بينها وبين "قسد"، ولأن "قسد" من جهة أخرى تدرك خطورة الجبهة من ناحية عدم السيطرة الكلية عليها في ظل وجود عشائر عربية تستعد للقتال مع الحكومة السورية. لذلك فإن كلا من "قسد" والحكومة تركزان التدعيم العسكري على جبهات الشمال السوري (الرقة، سد تشرين، دير حافر). من الناحية العسكرية يمكن أن يكون محور سد تشرين استنزافا عسكريا بين الطرفين كون الجغرافيا لا تساعد الحكومة كثيرا على التقدم حيث إن "قسد" تتمركز في منطقة مرتفعة، ومحور دير حافر لا يرجح أن "قسد" ستتحرك نحوه كون الحكومة السورية تمتلك عامل القوة فيه. جبهات الاشتباك متفاوتة من ناحية المكاسب لكل طرف، والخسائر البشرية ستكون كبيرة.

وعلى المستوى المحلي، اندلاع حرب بين "قسد" والحكومة سيخلق صراعا دمويا تكاليفه كبيرة، فـ"قسد" غير مطمئنة في مناطقها نتيجة وجود أطراف عربية وكردية غاضبة منها، ما يرجح حصول اقتتال داخلي بالتزامن مع الاشتباكات ضد الحكومة السورية، إضافة إلى وجود عامل إضافي هو خلايا "داعش" الموجودة في مناطق "قسد" والتي من المتوقع أن تستغل هي الأخرى الفرصة وتنفذ هجمات ضد "قسد" أو على السجون التي تحتوي آلافا من مقاتلي "داعش" لإخراجهم. خسارات جسيمة ستواجهها "قسد" ربما تخلق واقعا جديدا على الأرض لن يكون في مصب أهداف وتطلعات "قسد" نحو مستقبلها الذي تسعى إلى تحقيقه.

على المستوى المحلي، اندلاع حرب بين "قسد" والحكومة سيخلق صراعا دمويا تكاليفه كبيرة، فـ"قسد" غير مطمئنة في مناطقها نتيجة وجود أطراف عربية وكردية غاضبة منها

الحكومة السورية هي الأخرى ستكون في مواجهة عقبات عديدة، على المستوى الداخلي ستعاني من فجوات أمنية في مناطق في الساحل السوري والجنوب والبادية والحدود، كون أن الحرب مع "قسد" ستحتاج تعزيزات كبيرة جدا على المستوى البشري واللوجستي العسكري، إضافة إلى خسائر سياسية سيّما أن المزاج السوري لا يبدو أنه سيحتمل كارثة دموية جديدة في سوريا نتيجة اقتتال سوري-سوري بعد النتائج الجسيمة التي خلفتها الاشتباكات التي حصلت في كل من الساحل السوري والسويداء خلال هذا العام. يُضاف إلى ذلك أن حصول حرب داخلية جديدة سيُضعف المناخ الداعم للاستثمار، والدعم الدولي الموجه لسوريا، والجهود التي تُبذل لرفع سوريا عن قوائم العقوبات، وفتح الأبواب للبلد المُدمر لدخول عجلة إعادة الإعمار والاستقرار.

ومن غير المتوقع أن تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي حيال أي حرب بين الحكومة السورية و"قسد"، وهي التي تمتلك قواعد عسكرية في شرق الفرات، هذه القواعد لن تكون بمنأى عن النار التي ستشعلها الحرب بين الطرفين، نار ستُعقد حدود التدخل الأميركي ونتائجه، كما أن الحرب هذه ستكون سلبية على مهمة قوات الولايات المتحدة و"التحالف الدولي" في مواجهة "داعش" الذي سيستغل الظرف لبناء قواته من جديد، والعبث في المنطقة الحدودية السورية العراقية، يُضاف إلى ذلك مخاوف واشنطن من قيام إيران باستغلال الهشاشة الأمنية لإعادة ترتيب نفوذها عبر ميليشياتها العابرة للحدود، ولا ينبغي استبعاد قلق واشنطن والغرب من عودة النفوذ الروسي إلى سوريا في حال انهيار الواقع الأمني والعسكري على الأرض السورية، خصوصا أنها ما زالت بثقلها العسكري موجودة في كل من قاعدتي حميميم ومطار القامشلي.

تركيا تريد من الحكومة السورية إنهاء ملف شرق الفرات بكل الوسائل، وعلى الرغم من عدم وجود رغبة تركية للتدخل الفردي المباشر في سوريا لمواجهة "قسد"، حيث إن هذا التدخل سيزيد تعقيد العلاقة التركية الأميركية من جهة، وسيجعل الحكومة السورية أمام موقف صعب من الناحية السياسية من جهة أخرى. إلا أن أنقرة في الوقت ذاته هددت أكثر من مرة بالتدخل لدعم الحكومة السورية في حال اندلاع حرب بين الطرفين وفشل المسار التفاوضي الذي ينبغي أن يؤدي إلى دمج "قسد" في الجيش السوري وتفكيك قوتها العسكرية تمهيدا لعودة شرق الفرات إلى دمشق. لذلك من غير المستبعد التدخل التركي لدعم دمشق ضد "قسد"، فالأخيرة تشكل تهديدا لأمن أنقرة القومي.

تدخل واشنطن وتركيا- كل لحماية مصالحه- في حال اندلاع الحرب بين الحكومة السورية و"قسد" سيخلق واقعا جديدا على مستوى العلاقات بين الطرفين، والذي بدوره قد يقود إلى تغيّر في قوة التحالفات في المنطقة، وتعقيدا للخلافات التي يبذل الطرفان كل الجهود الدبلوماسية لحلحلتها. 

أ ف ب
مقاتلون من "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) يشاركون في عرض عسكري في حقل العمر النفطي في محافظة دير الزور، شرق سوريا في 23 مارس 2021

العراق ولبنان لن يكونا بمعزل عن النار التي ستسببها هذه الحرب، فأي خلل في الواقع الأمني السوري سيقود إلى هشاشة على الحدود، هذه الهشاشة سيتم استغلالها من قبل إيران و"حزب الله" اللبناني، سواء على مستوى محاولة إحياء نفوذهما في سوريا لإعادة الفوضى من جديد إلى المنطقة، أو على مستوى تحريك وتسريع عمليات نقل السلاح الإيراني إلى "حزب الله" اللبناني، والذي بدوره لن يجعل إسرائيل تقف مكتوفة الأيدي، ما يرجح قيام الأخيرة بتنفيذ هجمات عسكرية في سوريا ولبنان بحجة حماية أمنها القومي.

الحرب بين "قسد" والحكومة السورية شرارة نار لن تودي بالسوريين إلى الهاوية فحسب، بل هي حرب تهدد سلامة التحالفات في المنطقة، وأمن الإقليم، وقد تعيد تنظيم "داعش" إلى الواجهة من جديد، الطرفان لا يريدان الدخول فيها، والدول الإقليمية والدولية تبذل جهودا لمنعها. لكن على الرغم من أن الاشتباكات المتقطعة بين الطرفين يمكن النظر إليها في سياق سعي الأطراف لتقوية أوراقها التفاوضية، إلا أنها قد تؤدي إلى الحرب التي يتجنبها الجميع في حال أخطأت الحسابات عند أحد الطرفين، أو في حال طالت فترة الاستعصاء المتزامن مع التوتر العالي بين الطرفين.

font change