الرواية التاريخية

الرواية التاريخية

استمع إلى المقال دقيقة

لا تكتفي الرواية التاريخية بأن تكون استعادة لأحداث مضت أو محاكاة لفترات زمنية غابرة، بل تتحول مع كل جيل يكتبها إلى فن مركب تفرض على كاتبها أن يكون قارئا وباحثا في المراجع التاريخية في آن، لأن كتابة رواية تدور في زمن مضى تتجاوز توثيق الأحداث إلى إحياء الذاكرة الإنسانية، وفهم الحاضر باسترجاع الماضي عبر سردية تعيد ترتيب ما كتبه المؤرخون، ومحاولة فهم ما لم يكتب أو ما لم يفهم بعد.

وأمام هذه الأدوار التي تضطلع بها الرواية التاريخية تنشأ تساؤلات مهمة: هل ما وصلنا من التاريخ دقيق وكامل؟ وهل يمكن للخيال أن يملأ الفجوات دون تضليل؟ معلوم أنه في عالم الرواية التاريخية، لا إجابات قاطعة، بل تتعدد الرؤى وتتصادم التأويلات. وبين ما دوّنه المؤرخون وتخيله الروائيون، تظهر "الحقيقة" في منطقة رمادية، تحتاج إلى وعي نقدي وفني لقراءتها وفحصها. وهو ما يلزم الكاتب السير على حبل مشدود بين الأمانة والتخييل، والسرد والإضاءة، والجماليات الفنية ومعايير جودة النص السردي وشروطه.

ربما تكون رواية جرجي زيدان التاريخية "المملوك الشارد" المنشورة عام 1891، أول نواة لهذا الفن عربيا، وقد ولدت في خضم ذلك التاريخ العصيب الذي كان يمر فيه العرب والمسلمون بتحولات فكرية وثقافية عميقة. سيكتشف قارئها أن زيدان استند في كتابتها على مصادر تاريخية إسلامية وعربية متنوعة، ولم يكتف بالسرد الجاف، بل أضفى على الأحداث أبعادا درامية وشخصيات حية تعيش صراعاتها الإنسانية داخل سياق الحدث التاريخي. وعلى هذا النحو استمر زيدان في باقي رواياته التاريخية: "فتح الأندلس" و"صلاح الدين الأيوبي" و"أسير المتمهدي" ساعيا من وراء ذلك إلى كتابة التراث العربي والإسلامي بعين معاصرة وسردية مشوقة تجمع بين الثقافة والمعرفة والمتعة.

أما اليوم ومع تطور المناهج التاريخية فبات من الواضح أن التاريخ لم يعد وثيقة نقل للأحداث، بل عملية نقد وتحليل وفحص وإعادة بناء. يرجع ذلك إلى ظهور مدارس جديدة في التاريخ تهتم بالصوت المغيب، والرؤية من "الأسفل" أي من زاوية الناس العاديين لا الحكام، أو قادة المعارك فقط. وهذه الرؤى المعاصرة تؤكد أن كثيرا من الحقائق التي كنا نظنها يقينا، ما هي إلا روايات جزئية تحتاج إلى التوسع والتصحيح. ومن هنا، تبرز أهمية الرواية التاريخية الأدبية أيضا، لأنها كثيرا ما تتناول تلك الزوايا التي أغفلها المؤرخ، وتمنحها صوتا وصورة وقيمة إنسانية.

الكاتب الروائي لا يزعم امتلاك "الحقيقة التاريخية" ومع هذا ينصب عليه واجب السعي إلى تقديم صورة أعمق وأشمل لما حدث، أو ما كان يمكن أن يحدث

سيواجه كتاب الرواية التاريخية مخاطر ومحاذير كبرى، وعليهم الانتباه لها جيدا لئلا ينشغلوا بالتدوين، فيفقدوا السردية الإبداعية التي تخلق نصا روائيا إبداعيا هو المطلوب في الأصل. وعليهم أيضا أن يتيقنوا بأن لا علاقة لهم بتصحيح ما أخطأ فيه المؤرخون أو نسوه، أو أسقطوه عمدا، بل أن يصبوا تركيزهم على سد الفجوة بين المعرفة التاريخية الجافة والتجربة الإنسانية الحية. فالرواية التاريخية لا تقدم نفسها بديلا عن الكتاب الأكاديمي، بل وسيلة لفهم التاريخ بشكل أكثر قربا وحميمية.
الكاتب الروائي لا يزعم امتلاك "الحقيقة التاريخية" ومع هذا ينصب عليه واجب السعي إلى تقديم صورة أعمق وأشمل لما حدث، أو ما كان يمكن أن يحدث، من خلال أدواته السردية والخيالية، وقدرته على إثارة الأسئلة التي غالبا ما يهملها الخطاب التاريخي التقليدي. إضافة إلى ذلك يتوجب عليه إدراك أن الأدب بخلاف الدراسات التاريخية يتسلل إلى الوجدان ويترك أثرا عميقا، لأنه يتعامل مع الإنسان في لحظته الوجودية، لا كرقم في جدول الأحداث.

الرواية التاريخية لا تبسط التاريخ فقط، بل تمنحه معناه الإنساني، وتعيد للزمن الماضي نبضه، لتجعل القارئ يرى في التاريخ مرآة لحاضره، لا مجرد سجل لما مضى.
على كاتب الرواية التاريخية أن ينقل لقارئها روح الزمان لا أحداثه فحسب، وأن يجعل القارئ يشعر برائحة الشوارع، وصوت الأسواق، وتفاصيل الحياة اليومية كأنه عاشها بالفعل. فالمصداقية في الرواية التاريخية لا تقاس بصحة التواريخ فحسب، بل بقدرة الكاتب على جعل الماضي قابلا للتصور والعيش والتعاطف.

ومن أجل أن لا يقع الكاتب في "التاريخية الجافة"، عليه أن يوظف أدوات الخيال بذكاء، كأن يبتكر شخصيات خيالية تتحرك داخل بيئة حقيقية، أو يضيء الجوانب الإنسانية المعتمة في الأحداث الكبرى، وأن لا يكتفي بسرد الوقائع كما هي. يجب أن يلتزم بالدقة، بشرط أن لا يميت روح النص الأدبي بالتوثيق المفرط. كما ينبغي أن يحذر من المبالغة في التخييل الذي يشوه الجوهر التاريخي. الرواية التاريخية الناجحة ليست تلك التي تنقل ما كان، بل التي تقنع القارئ بما كان يمكن أن يكون، لتجعله بذلك يصدق ويشعر ويتأمل.

ليس الهدف من الرواية التاريخية أن تنافس كتب التاريخ، بل أن تلامس القلوب وتوقظ الخيال وتدفع إلى التأمل

الخيال هنا ليس تزويرا لكنه صعب، كونه جسرا يصل بين النص والمخيلة، وبين الوقائع والمشاعر. الروائي يوظف الخيال في خدمة الحقيقة، لا ضدها، ليضيء جوانب أهملها التاريخ الرسمي، أو ليعطي صوتا لمن صمتوا أو أسكتوا. كثيرا ما تضع الرواية القارئ في قلب الحدث، لا على هامشه، فتجعل من شخصية ثانوية في كتب التاريخ، بطلا رئيسا، وتعيد بناء اللحظة التاريخية بما فيها من تناقضات وصراعات داخلية وشخصية.

الكتابة في التاريخ بأكملها مغامرة محفوفة بالتحديات، ولكن حين يضاف إليها عنصر التخييل، تصبح المهمة أكثر تعقيدا وتشويقا. فالخيال في الرواية التاريخية ليس حرا طليقا كما في الفانتازيا وغيرها، وإنما هو خيال محكوم بقيود الوقائع والمرجعية فليس الهدف من الرواية التاريخية أن تنافس كتب التاريخ، بل أن تلامس القلوب وتوقظ الخيال وتدفع إلى التأمل، وهذا وحده كاف لمنحها مكانة خاصة وخصبة وصعبة بين الأجناس الأدبية الأخرى.

font change