الأخبار الاقتصادية الكاذبة… "حرب خفية" تستنزف الدول النامية

من الشائعات الرقمية إلى التشويش الاقتصادي: كيف تُربِك الأكاذيب مسارات التنمية وتهدد الاستقرار

لينا جرادات
لينا جرادات

الأخبار الاقتصادية الكاذبة… "حرب خفية" تستنزف الدول النامية

تجد الشائعات والأكاذيب قبولا واسعا في الفضاء الإلكتروني، حيث تتحول إلى أداة للتلاعب وزعزعة الاستقرار واستنزاف الاقتصادات النامية. وتُعَد هذه الممارسات أحد أوجه حروب الجيل الخامس، إذ تستهدف الأسواق المالية والبورصات وثقة المستثمرين، خصوصا في الدول التي تعاني ضعف الشفافية وضعف القدرة على الوصول إلى المعلومات الدقيقة.

لا يقتصر الأثر على صفقات فردية أو اضطرابات محلية، بل يمتد ليشكل عبئا اقتصاديا عالميا هائلا. فقد كشفت بيانات دولية على منصة Demand Sage المتخصصة أن نحو 62 في المئة من المحتوى على الإنترنت يُعتبَر زائفا، وأن الأخبار الكاذبة تكلف الاقتصاد العالمي نحو 78 مليار دولار سنويا. هذا الرقم وحده يكفي لإبراز حجم الخطر الذي تمثله هذه الظاهرة على الاستقرار الاقتصادي الكوني.

آليات التدمير: كيف تعمل الأكاذيب الاقتصادية؟

ليست الأخبار الاقتصادية الزائفة مجرد ضوضاء، بل قادرة على دفع الأسواق إلى حافة الفوضى. هي تؤدي إلى تقلبات حادة قد تدفع المواطنين إلى تسارع طلبات الشراء خوفا من فقدان الفرصة، وتترك أثرا سلبيا في سوق العقارات التي تٍتضخم في شكل مصطنع وغير واقعي. ومن هنا يتكون مناخ غير آمن للاستثمار، سواء الوطني أو الأجنبي، مما يؤدي إلى تباطؤ معدلات النمو وهروب رؤوس الأموال.

تكلفة الأخبار الكاذبة على الاقتصاد العالمي تبلغ نحو 78 مليار دولار سنويا

منصة Demand Sage

وتُحدِث هذه الأخبار أثرا مضاعفا في الأسواق النقدية ومواقف مؤسسات التمويل الإقليمية والدولية، التي تتردد في التعاون مع الدول المتأثرة. وتضع هذه الديناميكية الحكومات في حال من عدم اليقين الاقتصادي، حيث يصبح اتخاذ القرارات لتحقيق الأهداف التنموية ضربا من المخاطرة.

ويتضاعف أثر هذه الظاهرة مع التقدم التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي تسهل سرعة انتشار الأكاذيب الاقتصادية ووصولها إلى شرائح واسعة من المتعاملين. وفي الدول النامية، حيث يرزح المواطنون تحت وطأة التضخم والبطالة أو يعيشون أجواء الحروب والأوبئة، تصبح البيئة خصبة لانتشار الشائعات الاقتصادية وتصديقها.

مصر نموذجا: بين الاستهداف المتكرر والتحديات الداخلية

يُعتبَر الاقتصاد المصري من أبرز الاقتصادات الناشئة التي تتعرض إلى حملات متكررة من الشائعات والأكاذيب، إذ تستغل حملات من هذا النوع هشاشته النسبية للتأثير على مسار خططه التنموية. وتزداد خطورة هذه الشائعات بسبب حساسية السياسات الاقتصادية والمالية في مصر، مما يجعلها عرضة للتأثر في شكل مباشر. وتدرك الحكومة المصرية هذه الأخطار وتؤكد أن الشائعات الاقتصادية هي جريمة ضد أمن المجتمع، وتكرّر باستمرار ضرورة التواصل مع الجهات المعنية للتأكد قبل نشر أي معلومات لا تستند إلى حقائق وتؤدي إلى إثارة القلق وتزييف الوعي.

يشير تقرير نشره المركز الإعلامي لمجلس الوزراء أخيرا– بعنوان "جهود مواجهة الشائعات على مدار عام 2024: قطاعا الاقتصاد والصحة الأكثر استهدافا، والجهود التنموية وتداعيات الأزمات العالمية أسباب رئيسة لتصاعد وتيرة الشائعات" – إلى أن الاقتصاد والصحة كانا أكثر القطاعات استهدافا بالشائعات، التي تضاعفت نحو ثلاث مرات خلال الفترة 2020-2024 مقارنة بالفترة 2015-2019.

ويرصد التقرير نسب الشائعات المتعلقة بالأزمات العالمية من إجمالي الشائعات كل عام، حيث جاءت 54 في المئة عام 2024، و53.8 في المئة عام 2023، و46 في المئة عام 2022، و18.3 في المئة عام 2021، و51.8 في المئة عام 2020. أما عن نسبة الشائعات المتعلقة بالجهود التنموية فقد سجلت 32.5 في المئة عام 2024، بينما جاءت النسبة الكبرى لكل من الاقتصاد والصحة بـ19.4 في المئة.

الأخبار الكاذبة ليست مجرد مشكلة إعلامية فحسب، بل تكلفة اقتصادية باهظة تنتج منها زيادة تقلبات الأسواق وضعف ثقة المستثمرين

الخبير الاقتصادي الدكتور ياسر العالم

ومن أبرز الشائعات التي استهدفت مصر وفق التقرير الزعم بأن مشروع تنمية مدينة رأس الحكمة بالساحل الشمالي يمثل بيعا لأصول الدولة، وبأن الحكومة تعتزم بيع المطارات المصرية، وبأن صندوق النقد الدولي ألغى مناقشة الملف المصري، وبأن قناة السويس ستباع في مقابل تريليون دولار، وبأن المستشفيات الحكومية ستباع، وبأن الخدمات الصحية ستوقف، وبأن "سيمنز للطاقة" الألمانية ستنسحب من تشغيل محطات الكهرباء الكبرى، وبأن الهيئة الاقتصادية لقناة السويس اقترضت 19 مليار جنيه (392 مليون دولار) لتطوير الموانئ، وبأن ثمة مخططات لإخلاء دير سانت كاترين.

ويحذر خبراء اقتصاد من أن حملات كهذه لا تُبَث في شكل عفوي، بل تدار في شكل ممنهج تستغله جماعات على غرار جماعة "الإخوان المسلمين" المحظورة بهدف التشكيك في قدرة الاقتصاد المصري على الصمود. وتتركز محاولات هذه الجهات على القطاع المصرفي الذي يُعَد من أكثر القطاعات حساسية، إذ يترتب على أي هزة فيه انعكاسات واسعة على بقية مفاصل الاقتصاد.

رويترز
لوحة اعلانية في وسط القاهرة عن مشروع رأس الحكمة، 16 سبتمبر 2025

ومن خلال نشر أخبار ملفقة أو مشوهة عن أوضاع المصارف، أو التلميح بوجود أزمات سيولة أو تعثر في السداد، تسعى الجهات إلى زرع الشكوك بين المواطنين ودفعهم إلى فقدان الثقة في المؤسسات المالية، مما قد يؤدي إلى سحب الودائع في شكل جماعي وإحداث ارتباك مالي واسع. ويرى الخبراء أن الخطر لا يكمن فقط في زعزعة الاستقرار اللحظي، بل أيضا في هز صورة الاقتصاد المصري أمام المستثمرين الأجانب ومؤسسات التمويل الدولية، إذ إن استمرار هذه الحملات يضعف سمعة الدولة ويزيد صعوبة جذب الاستثمارات أو الحصول على التمويلات اللازمة للتنمية.

أصوات الخبراء: تكلفة باهظة وحلول صعبة

يرى الخبير الاقتصادي الدكتور ياسر العالم أن الأخبار الكاذبة "ليست مجرد مشكلة إعلامية، بل هي تكلفة اقتصادية باهظة، فهي تضعف ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، وتزيد تقلبات الأسواق، وتؤدي إلى بيع وشراء عشوائي في البورصات، مما يتسبب في خسائر بالقيمة السوقية للشركات". ويضيف في حديث إلى "المجلة": "تُفاقِم الحملات الكاذبة الأزمات عبر ارتفاع تكلفة التمويل، وزيادة الدين العام، وعدم استقرار العملة، وارتفاع معدلات التضخم. وتؤدي هذه التداعيات مجتمعة إلى خروج الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) وتراجع نصيب الفرد من الناتج القومي، إلى جانب أثرها السلبي في التصنيفات الائتمانية الدولية".

ويؤكد العالم "أن كثرة الشائعات تربك صناع القرار وتضعف الشفافية، مما يعطل قدرة الحكومة على تنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي والهيكلي، ويبقي الرأي العام مشوشا بمعلومات مغلوطة". ويقول: "لمواجهة هذه التحديات، لجأت بعض الحكومات إلى إنشاء وحدات للرصد والتصحيح السريع للشائعات الاقتصادية، بهدف تعزيز الشفافية وضمان تدفق المعلومات الرسمية في شكل دوري لتقليل أثرها السلبي".

الشائعات الاقتصادية أو الأخبار الكاذبة هي معلومات قد تكون زائفة أو غير مكتملة تُنشَر من دون التحقق من مصدرها، ويكون غرضها الأساس هو التشويش الاقتصادي

الخبير المصرفي محمد عبد العال

في السياق ذاته، يشدد السفير صلاح حليمة، مساعد وزير الخارجية السابق، على "ضرورة التصدي للشائعات منذ بدايتها عبر تقديم بيانات دقيقة وموثقة بالقرائن، حتى لا تترك ثغرات يمكن استغلالها". والأمثلة كثيرة. في أزمة الديون الأوروبية، مثلا، واجهت ألمانيا شائعات عن هشاشة مصارفها الكبرى بنشر بيانات رسمية لطمأنة الأسواق. وبالمثل، ردّت سنغافورة على شائعات نقص الغذاء خلال أزمة سلاسل الإمداد أثناء جائحة كوفيد-19 بإعلان أرقام دقيقة عن مخزونها الاستراتيجي من الحبوب.

أ.ف.ب.
صورة جوية تظهر الطريق السريع بين القاهرة والإسماعيلية، 14 يوليو 2024

أما الخبير المصرفي محمد عبد العال فيركز على البعد المصرفي للشائعات، معتبرا "أن الأخبار الكاذبة هي معلومات زائفة أو غير مكتملة تُنشَر بلا تحقق من مصدرها، وغرضها الأساس التشويش الاقتصادي وإثارة القلق حول قضايا مالية حساسة". ويوضح أن الشائعات تنتقل بسرعة عبر القنوات الفضائية المعارضة ووسائل التواصل الاجتماعي، بل وحتى في الاجتماعات العامة. ويضرب أمثلة على ذلك، "مثل إطلاق شائعات عن إفلاس مصرف أو مجموعة مصارف، أو الإيحاء بوجود أخطار تعثر في أحد الفروع الأجنبية، مما يؤدي إلى هلع جماعي وسحب للودائع، ويعرّض المجتمع المصرفي إلى أخطار انعدام السيولة". ويؤكد أن تداعيات هذه الحال "لا تقتصر على المصارف، بل تمتد إلى الاقتصاد ككل، حيث تفقد الأسواق الثقة، وتضطر الحكومات إلى دفع تكاليف باهظة لإعادة الاستقرار، سواء عبر خسائر مباشرة، أو غرامات، أو ارتفاع تكاليف توفير السيولة الطارئة".

أفق عالمي: من مصر إلى واشنطن

على الرغم من أن الشائعات الاقتصادية تستهدف في الغالب الاقتصادات النامية، لا يتوقف أثرها عند حدودها. في العالم المتقدم أيضا، يمكن أن تؤدي التصريحات أو الأخبار المثيرة للجدل إلى موجات من القلق، تُستغَل بدورها في بث الشائعات. مثال ذلك ما حدث خلال تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب في شأن نيته فرض رسوم جمركية قبل فرضها فعلا، إذ غذت هذه التصريحات موجة من الأخبار المضللة التي أربكت المستثمرين والمنتجين وزادت تكلفة تجنب الأخطار. هذا المثال يُظهر أن الشائعات الاقتصادية ليست مشكلة محلية، بل تحدٍ عالمي يستوجب استجابات منسقة، تتراوح بين تعزيز الشفافية المحلية وتعاون المؤسسات الدولية على مكافحة التضليل الاقتصادي، وفق خبراء اقتصاديين.

الأخبار الكاذبة، مهما بدا وقعها عابرا، تتحول في الواقع إلى موجات صادمة تضرب عمق الاقتصادات، فتضعف الثقة، وترهق الأسواق، وتعطّل التنمية. ومع تكلفتها السنوية التي تُقدّر بعشرات المليارات من الدولارات، ومع قدرتها على استهداف الاقتصادات النامية والكبرى على حد سواء، تظل هذه الظاهرة واحدة من أخطر التحديات الاقتصادية المعاصرة.

font change

مقالات ذات صلة