في داخل أروقة مكتبة الفاتيكان، التي تحوي بين جدرانها كنوزا من المخطوطات العربية والإسلامية، ترقد واحدة من أجمل الوثائق الأدبية وأكثرها شاعرية: مخطوطة "حديث بياض ورياض"، تلك الصفحات المزينة بالمنمنمات الذهبية، والرسومات البديعة التي تكشف عن جانب من عبقرية الأدب العربي الأندلسي، وتقدم لنا لوحة فنية بهية تلاقى فيها النثر بالشعر، والغزل بعذوبة الإحساس.
تحكي رواية "بياض ورياض" قصة فتى دمشقي يدعى بياض يقع في غرام فتاة أندلسية تدعى رياض بعد أن يلمحها قرب النهر في لحظة خاطفة تحول حياته إلى لهفة لا تنطفئ. يدخل بينهما وسيط غير متوقع: عجوز بابلية، تتولى مهمة التوفيق بين العاشقين، حاملة الرسائل ومسهلة اللقاءات، حتى تكاد تصبح الشخصية الأكثر حيوية في النص، فهي لم تعد مجرد راوية للأحداث بل شريكة فيها. لكن هذه القصة لا تمضي في هدوء، إذ سرعان ما يتدخل الغضب الاجتماعي، فرياض جارية تخص بيت الحاجب، وابنة الحاجب– التي يطلق عليها "السيدة"– تغار منها، فتسعى إلى عزلها ومنعها من لقاء بياض.
يتبادل العاشقان الرسائل والأشعار في ظل هذا الحصار، ويسعى بياض بكل ما أوتي من قوة إلى استمالة قلب رياض، تصوره المنمنمات بألوانها الزاهية وهو يهيم في الطرقات يحمل آلة العود يعزف الموسيقى للناس معلنا عن شوقه وحبه لتلك الجارية التي سلبت لبه، ويظهر في منمنمة أخرى وهو مستلق بلا وعي على شاطئ النهر من فرط هيامه برياض.
ولأن المخطوط مبتور لم يتبق منه إلا صفحات معدودة، فإننا لا نعرف على وجه اليقين بداية القصة، ولا نهايتها، لكنه يكشف لنا عن لغة رقيقة تصف المشاعر، تجمع بين صدق العاطفة وجرس الشعر الغنائي. النص مكتوب في بنية مزدوجة: نصفه تقريبا أبيات شعرية، والنصف الآخر نثر روائي، بما يجعله أقرب إلى ديوان غنائي روائي أو مسرحية شعرية. لكن وراء هذه القصة الغرامية، نلمح صورة أوسع للمجتمع الأندلسي في القرن الثالث عشر (السابع الهجري): انفتاح اجتماعي، وحضور قوي للمرأة، وتداخل للعلاقات الإنسانية عبر أدوار متعددة من الأهل والوسطاء والخصوم.
وراء هذه القصة الغرامية، نلمح صورة أوسع للمجتمع الأندلسي في القرن الثالث عشر: انفتاح اجتماعي، وحضور قوي للمرأة، وتداخل للعلاقات الإنسانية
تزداد مخطوطة "بياض ورياض" فرادة بما تحويه من منمنمات مذهبة، تجعل منها نصا أدبيا بصريا في آن واحد. فالرسومات تضعنا أمام أحد أقدم أشكال الرواية المصورة في التراث العربي، حيث تتحول المشاهد المكتوبة إلى صور حية، لقاء العاشقين قرب النهر، مجالس النساء، العجوز البابلية وهي تتولى الوساطة، والفضاءات الداخلية التي تعكس ملامح العمارة الأندلسية بقبابها وزخارفها. هذه المنمنمات توثق جانبا من الزي واللباس والعادات الاجتماعية، وبذلك، فإن قيمة المخطوطة لا تقتصر على ريادتها الأدبية، بل تتجلى أيضا في كونها وثيقة حضارية تكشف عن وعي العرب الأندلسيين بجماليات الصورة والنص، وتؤكد أن الفن العربي كان ينمو في أفق متعدد الوسائط يجمع بين الشعر والنثر والرسم في بنية واحدة.
إذا كان تاريخ الرواية الأدبية في العالم ينسب عادة إلى التجارب الأوروبية، فإن هذه المخطوطة العربية تفرض حضورها كأحد أقدم النماذج الروائية في التاريخ الإنساني. حيث نجد فيها قصة حب تنبني على شخصيات واضحة، وصراع إنساني، وحبكة سردية مكتملة الأركان، تجعل النص أقرب إلى الرواية بمفهومها الحديث منه إلى الحكاية التقليدية. إنها حلقة ضائعة من تاريخ الأدب العالمي، تبرهن أن الأدب العربي كان من أهم صناع الأشكال الأدبية الحديثة، وقد لاحظ الباحثون أن هذا النص الأندلسي يتشابه في الزمن والموضوع مع أعمال أوروبية مثل قصة "أوكاسان ونيكوليت" الفرنسية و"كتاب الحب الجميل" لخوان رويز الإسباني، بل يتقاطع معها في البناء والمناخ العاطفي.
الأهم أن تأثير "بياض ورياض" وأمثالها من النصوص العربية في الأدب الأوروبي لم يكن في الشكل فقط، بل في المضمون والقيمة الفكرية أيضا، إذ نقل إلى الأدب الأوروبي مفاهيم لم تكن مألوفة لديهم: الحب العذري، وتقدير المرأة، والغزل والرومانسية كموضوع أدبي. تلك الرؤية العربية للحب، بما تحمله من عفة وسمو وجداني، تسللت إلى الرومانسية الأوروبية وأسهمت في تشكيل نظرتهم للمرأة والعلاقة العاطفية. ومن هنا، يصبح نص "بياض ورياض" مثالا لجسر حضاري، يربط بين الثقافة العربية والأدب الغربي، ويذكر بأن الرواية الأوروبية تأثرت بروح عربية قادمة من الأندلس.
ومما يثير أيضا حول حكاية "بياض ورياض" قصة نجاتها من الحرق والإعدام. فالمخطوطة أو ما تبقى منها، نجت بأعجوبة من الإبادة التي تعرضت لها عشرات الآلاف من الكتب العربية في الأندلس، حين أحرقت مكتبات غرناطة بعد سقوطها سنة 1492 بأوامر الملوك الكاثوليك. كانت تلك الإبادة الفكرية واحدة من أكبر الكوارث التي لحقت بالتراث العربي الإسلامي، إذ أزيلت عوالم كاملة من المعرفة، وضاعت نصوص لا نعرف عنها شيئا، وربما كانت تحمل كنوزا فكرية وأدبية تضاهي ما وصلنا.
تأثير "بياض ورياض" وأمثالها من النصوص العربية في الأدب الأوروبي لم يكن في الشكل فقط، بل في المضمون والقيمة الفكرية أيضا
ومن بين هذا الركام، تسللت رواية "بياض ورياض" إلى الضفة الأخرى، يرجح أنها نقلت من شمال أفريقيا إلى أوروبا خلال حملة شارل الخامس، حتى استقرت في مكتبة الفاتيكان. وبقاؤها إلى اليوم يذكرنا بما فقدناه أكثر مما يذكرنا بما ظفرنا به. فإذا كان نص واحد مثل هذا يكشف عن مستوى رفيع من الفن الأدبي والشاعرية والخيال، فكم من الأعمال الأخرى أبيدت قبل أن نعرفها؟ إنها صفحة صغيرة من سجل ضخم أحرق عمدا، ومع ذلك تخبرنا أن تراثنا كان أغنى وأرحب مما بين أيدينا اليوم.