حماية العربية وشغف الأوائل

حماية العربية وشغف الأوائل

استمع إلى المقال دقيقة

اللغة العربية التي نتحدث بها اليوم، بقواعدها المحكمة ومعاجمها الغنية وبلاغتها الباهرة، لم تتشكل هكذا بمحض الصدفة، ولا ورثناها كما نتوارث الأموال والمنازل، بل هي حصيلة مشروع علمي حضاري خاضه علماء نذروا أعمارهم لحفظ اللسان وصيانة البيان، خرجوا إلى الصحراء يجمعون المفردة من أفواه الأعراب، وسهروا على تنقيحها وضبطها، حتى تحولت العربية من سليقة ناطقة إلى علم قائم بذاته.

شيد هؤلاء العلماء بنيان اللغة لبنة لبنة، بالكلمة المسموعة، والبيت المنقح، والقاعدة المستنبطة، حتى أصبحت العربية التي بين أيدينا أثرا من آثار العزيمة العلمية التي حفظت هوية العرب، وأبقت صوتهم حيا صامدا رغم صروف الزمن وتبدل الأيام.

كانت اللغة في أصلها صوتا حرا، منتشرا في الصحراء، متوزعا بين القبائل، وتتشكل دلالاته بحسب البيئة واللهجة، فلم يكن هناك مركز لغوي، أو مرجع واحد، بل تنوع واسع في الاستعمال والنطق والمعنى. ومع اتساع الفتح الإسلامي، ودخول الأعاجم في النسيج العربي، بدأ اللحن يظهر، وبدأت الكلمات تنحرف عن أوزانها ونظامها، فتطرق الخلل إلى لسان العرب، وأخذ الفساد يدب في السليقة. هنا، ولد الإحساس بالخطر.

لم يكن الخوف على المفردات فحسب، بل على البنية الداخلية للغة، على العلاقة بين المرفوع والمنصوب، بين العامل والمعمول، على الإيقاع الخفي الذي يمنح العربية تماسكها. فهذه اللغة مهما اتسع انتشارها، وتكاثرت ألفاظها، لا بد أن تظل عربية بمعناها الأعمق، أي لها قانون يميز الصالح من الرديء، والدخيل عن الأصيل، نظام يمكن أن يعلم ويحفظ ويراجع.

عند هذه اللحظة، ظهر رجال مثل أبي عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبي سعيد الأصمعي، تحركوا بدافع شخصي، وإيمان باللغة، حبا لها، وحرصا عليها، كأن اللغة تناديهم، فرحلوا إلى البادية بمدادهم وصحفهم يسمعون ويكتبون، فتغربوا عن أوطانهم، وقطعوا الفيافي والقفار، ولاحقوا مظان الكلمات وأبيات الشعر بين السهول والنفود والوديان، وخيام البدو، ومواطن القبائل.

كان الواحد منهم يبيت بين الأعراب، يأكل مما يأكلون، ويصغي لأحاديث الرجال والنساء في الإبل والمراعي والزواج والطلاق وجميع شؤونهم، ويستمع للصبية يتبادلون الأهازيج فيقف ويكتب. يقول الأصمعي: "سمعت صبية بحمى ضرية يتراجزون فصدوني عن حاجتي، وأقبلت أكتب ما أسمع، فأقبل شيخ فقال: أتكتب كلام هؤلاء الأقزام الأدناع" (وأدناع الناس: سفلتهم).

كان جمع اللغة فعلا ميدانيا قبل أن يكون فعلا نظريا، لم يكتف العلماء بسماع الشعر المتداول في المدن، إنما خرجوا إلى منابع الكلام، إلى الصحراء حيث ما زال اللسان سليما

ومثل هذا ما عاناه أبو العباس- ابن عم الأصمعي- في رحلته، فقد كان يهلع من الغربة في البادية، ويشتاق أهله، فيهمّ بالرجوع، ثم يرى رجلا فيتوسل له أن يسهل له سبيل الأخذ عن الأعراب فيفعل، ويصحبه فيسمع قصيدة من أعرابي مطلعها:

لقد طال يا سوداء منك المواعد      

ودون الجدا المأمول منك الفرقد

فيقول: "والله قد أنسيت أهلي، وهان علي طول الغربة وشظف العيش سرورا بما سمعت". وكان أحدهم يقول: "كنت أنسخ بالليل حتى ينقطع سوائي" (أي وسطي). ومثل ذلك كثير يشهد بأنهم عانوا في سبيل حماية العربية وتدوينها أشد مما يعاني الجندي في صفوف المعركة والنزال.

كان جمع اللغة فعلا ميدانيا قبل أن يكون فعلا نظريا، لم يكتف العلماء بسماع الشعر المتداول في المدن، إنما خرجوا إلى منابع الكلام، إلى الصحراء حيث ما زال اللسان سليما، أرادوا أن يتحققوا من تلك القصائد والكلمات في بيئتها الحية، ويستمعوا إلى نطق أهلها وأصحابها.

ومما يروى أن الكسائي حين التقى الخليل بن أحمد سأله: من أين أخذت علمك؟ قال: "من بوادي الحجاز ونجد وتهامة"، فطاف الكسائي هذه البوادي وقضى وطره، ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينة حبرا في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ.

مع الوقت، انتقلت اللغة من كونها مادة محفوظة بالرواية، إلى موضوع للوعي والتحليل. وتحول السؤال من "ماذا قالت العرب؟" إلى سؤال أعمق وأكبر: "كيف نرتب ما قالته العرب في نظام يمكن أن يصير علما؟". هنا ولد علم النحو، لحظة الانتقال من السماع إلى التقعيد. أصبحت الجملة العربية تفهم من خلال العلاقات التي تربط أجزاءها، وظهر مفهوم "العامل" الذي لا يرى لكن يستدل عليه، كما تدل العلة على المعلول. كانت هذه فلسفة ضمنية أن اللغة ليست كلمات، بل نظام خفي من التأثير والتأثر.

ومع النحو جاءت المعاجم. لم يعد تدوين الكلمة كافيا، بل لا بد أن ترد إلى جذرها، وتقارن بأخواتها، ويرصد تاريخ تحول معناها. وجاءت العلوم فوضع العلماء لها مصطلحات خاصة: فالعروض، والبحر الطويل، والبسيط، والمديد، والفاعل، والمفعول، والخبر والمبتدأ، والمنطق، والقضية، والموضوع، والمحمول وأصول الفقه، والقياس، والاستحسان... إلخ، كل هذه معان دخلت في اللغة، وفعلت فعلها، وهي بتنوعها كانت بداية تشكل رؤية عربية للغة بوصفها مجالا للعقل، والتفكير والبناء العلمي الذي امتد أثره إلى حياتنا اليوم.

إن مشروع "جمع اللغة العربية، وتدوينها، وتقعيدها" الذي حدث في العصرين الأموي والعباسي هو درس حضاري ملهم، فالعرب لم يحفظوا لغتهم بخطابات الحنين، ولا بشعارات التفاخر والاحتفاء، بل بالفعل العلمي والعملي تجاهها. لم يكتفوا بأن يقولوا "نحن أهل الفصاحة"، بل جلسوا يفرزون، ويقيسون، ويعللون، ويضعون القواعد، إلى أن أصبحت العربية نظاما يمكن تدريسه بعد أن كان صوتا يلتقط بالسليقة والسماع.

قوة اللغة لا تقاس بكثرة من يتحدثون بها، ولا بانتشارها في وسائل التواصل، بل بقدرة أهلها على الوعي بها، والتفكير من خلالها

إن مواجهة ضغوط العصر، وهيمنة اللغات الأجنبية لا تتحقق بمجرد التغني بالعربية وذكر أمجادها وجمالها. فمثل هذا التذكير- على أهميته- يظل وعيا عاطفيا لا يبدل الواقع، ما لم يتحول إلى عمل فعلي ومشروع معرفي متكامل. فالإيمان الحقيقي بقيمة العربية يتجلى في جعلها حاضرة في ميادين الفكر والعلم والعمل، لغة مرنة متجددة قادرة على التعبير عن حاجات العصر، ومواكبة تحولاته، وتقديم روحها في أسلوب حي وجذاب يفرض وجودها في الحياة اليومية.

إن اللغة التي لا تدخل طور الوعي بذاتها تفقد نفسها ولو تكلم بها الملايين، فقوة اللغة لا تقاس بكثرة من يتحدثون بها، ولا بانتشارها في وسائل التواصل، بل بقدرة أهلها على الوعي بها، والتفكير من خلالها، وجعلها موضوعا للمعرفة والتنظيم والتقعيد.. ربما لهذا السبب تحديدا نستطيع أن نقول اليوم إن مشروع تدوين اللغة العربية قبل أكثر من ألف سنة، كان فعلا لصناعة المستقبل، لأن كل لغة لا تؤسس بوصفها علما، ومنهجا، وأسلوب حياة، وطريقة تفكير هي معرضة لأن تستبدل أو تهمش.

font change