في مطلع القرن الثالث الهجري كانت الدولة العباسية في أوج توسعها الحضاري، وعاصمتها بغداد حاضرة متعددة الثقافات. ازدهرت حركة الترجمة التي رعاها الخلفاء، فنُقلت إلى العربية علومٌ وآداب من أمم شتى كاليونان والرومان والفرس والهنود، واندمجت في مجتمع الخلافة أجناس وأديان عديدة، وتشكلت بيئة فكرية منفتحة لم يألفها المسلمون الأوائل، حتى قال بعض المؤرخين: إن أجواء بغداد في ذلك الزمن تبدو "صورة مختلفة تماما عن القرن الإسلامي الأول" لشدة ما دخلها من عناصر جديدة.
أدى هذا الانفتاح إلى نهضة علمية في مجالات شتى كالطب والفلك والفلسفة، لكنه في الوقت ذاته أوجد تيارات فكرية متباينة، وبدأت الفلسفة اليونانية تجد طريقها إلى عقول بعض علماء المسلمين من خلال الترجمات، وبدأ علم الكلام ينمو كعلم عقلي في التعامل مع قضايا العقيدة، متأثرا أحيانا بتلك الفلسفة. أما على الصعيد الديني والاجتماعي، فظهرت فرق ومذاهب تسعى إلى تقديم تفسيرات مختلفة للإسلام مثل المعتزلة، والشيعة بفرقهم المختلفة، والخوارج، والجهمية، وغيرهم. وشهدت تلك الفترة سجالات لاهوتية حادة حول مسائل الصفات الإلهية والقضاء والقدر وخلق القرآن وغيرها.
في خضم تلك التحولات الفكرية المعقدة، نشأ الإمام أحمد بن حنبل في بغداد، حاضرة العلم والسياسة، وأدرك منذ شبابه المبكر حجم التحديات التي أخذت تهدد صفاء العقيدة، وتغشاها بطبقات من التأويلات الدخيلة. كان واعيا بأن استعادة نقاء الرسالة الأولى لا يكون إلا بالرجوع الصادق إلى منابع الوحي: القرآن والسنة، كما فهمها الجيل الأول من الصحابة والتابعين، في صفائها العربي، بعيدا عن الفلسفات المستوردة والمقولات المحدثة التي بدأت تلتف حول النص وتضع بينه وبين العقل المسلم حُجُبا من الجدل والافتراض.
فن "المسانيد" لم يكن مجرد نمط تقني في التصنيف، بل يعكس تصورا معرفيا أصيلا، أن النص هو الأصل، وأن الصحابة هم بوابة التلقي
كان ردّه العملي أن كرّس نفسه لجمع الحديث. كان يسعى إلى استعادة أصالة الفهم الديني كما كان في الأيام الأولى للإسلام، ولهذا اتّخذ سبيل المحدِّثين، ليجمع أكبر قدر ممكن من روايات العصر الأول، فطاف البلدان طلبا للحديث، ورحل إلى الحجاز واليمن والشام والعراق وغيرها، ولم يدّخر وسعا في تدوين كل ما ظفر به من مرويات النبي ﷺ وأقوال الصحابة. وابتدأ مشروعه العلمي في مقتبل شبابه، واستمر لعقود، مخلفا لنا موسوعة حديثية هائلة قوامها ما يقرب من 30 ألف حديث مسند.
لقد كان دافع الإمام أحمد لتصنيف المسند إصلاحيا واضحا: أراد أن يوفر لأهل السنة مرجعا جامعا عند الاختلاف. ومن كلماته المشهورة في هذا الصدد: "جمعتُ هذا الكتاب ليكون مرجعا إذا اختلف الناس في سنة رسول الله ﷺ رجعوا إليه". لذا رتب أحاديثه على أبواب المسانيد (أي بحسب أسماء الصحابة) ليعرض كل ما ورد عن النبي من خلال كل صحابي بشكل مستقل. وكان بذلك يسعى إلى حفظ السنّة كاملة قدر الإمكان في وجه محاولات طمسها أو تأويلها البعيد عن صحيح المنقول. وبالفعل، أصبح مسنده ركنا ركينا يعتمد عليه أهل الحديث، فكتابه "أصل من أصول الإسلام" كما يقول تاج الدين السبكي. بل لم يرو على وجه الأرض كتاب في الحديث أعلى منه، كما يذكر ابن الجزري. ويصف ابن عساكر المسند بأنه أكبر كتاب جمع الحديث، و"هو كتاب نفيس، يُرغب في سماعه وتحصيله، ويرحل إليه".
لم يكن مشروع أحمد الكبير كتابا حديثيا فقط، بل استجابة فكرية عميقة، وحركة إصلاحية تحاول إعادة تشكيل العلاقة بين المجتمع والوحي. فبدلا من الخوض في ردود فلسفية، أو سجالات عقلية مع المتكلمين، اختار أحمد الطريق العملي: أن يُقدّم النص كما هو، أن يجمعه من أفواه الشيوخ، ويصنفه على الصحابة لا على الأبواب، أن يتركه يتحدث بلسان النبوة لا بلسان المذاهب.
ففن "المسانيد" لم يكن مجرد نمط تقني في التصنيف، بل يعكس تصوّرا معرفيا أصيلا، أن النص هو الأصل، وأن الصحابة هم بوابة التلقي، وأن ترتيب الحديث ليس خاضعا للمواضيع بل للسند، أي للشبكة الزمنية الأولى التي كانت الشفاهة فيها أساس العلم. ومن هنا نفهم لماذا لم يُرتب "المسند" على الأبواب الفقهية، ولماذا لم يُحذف المكرر، ولماذا بقي كما سمعه الإمام من شيوخه. إن في ذلك كله ما يشبه البيان الضمني بأن وظيفة العالم ليست صناعة الأفكار، بل صيانة الأثر.
كان "المسند" تعبيرا عن هذه الرؤية الإصلاحية الأصيلة، رؤية تستعيد "العقل المسلم" لا تلغيه، بل تضعه في موضعه الطبيعي، داخل الأصول الأولى
وليس غريبا حين نجد أن هذا العمل الجبار جاء من رجل كان ينهى عن تدوين آرائه الفقهية، ويرى أن العمدة هي السنة لا اجتهادات الأشخاص، كما يقول عن ذلك ابن القيم: "وكان أحمد شديد الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يُحِبُّ تجريد الحديث، ويكره أن يُكتَب كلامه، ويشتدُّ عليه جدا".
هذا الحسّ العالي بمرجعية الوحي جعل المذهب الحنبلي في حقيقته مذهبا للدليل، ولهذا تجد في داخله تعددا وتنوعا في الآراء، وخصوبة في الاجتهاد، لأنه لا يتمحور حول شخص الإمام، بل حول الأثر ذاته. الحركة فيه تكون داخل النص، والفكر ينمو في ظله، لا في ظلال عقول منفصلة عنه. وإذا وُجد عقل، فهو العقل الذي يتحرك بين النصوص، يجمعها، يقارنها، يُنزلها منازلها، لا الذي يصوغها في قوالب مسبقة أو يحمّلها ما لا تحتمل.
ومن الجيد هنا أن نتطرق لتلك الصورة النمطية التي شاعت عن أهل الحديث، وتصورهم بأنهم ضد العقل أو أسرى لحرفية جافة. فهؤلاء القوم– وإن شددوا على مرجعية الأثر– لم يكونوا جامدين، بل كانت لديهم رؤية عقلية متينة تنطلق من بنية النص لا من خارجه. والدليل الأوضح على ذلك أنهم جمعوا ودوّنوا وأسسوا لعلم الرواية والدراية، وناقشوا السند والمتن، وقارنوا الروايات، بل أسسوا مذاهب فقهية كبرى. كل ذلك لا يمكن أن يُنجز إلا بعقل نشط ومنهج دقيق.
كان "المسند" تعبيرا عن هذه الرؤية الإصلاحية الأصيلة، رؤية تستعيد "العقل المسلم" لا تلغيه، بل تضعه في موضعه الطبيعي، داخل الأصول الأولى، داخل المأثور، داخل فضاء التلقي العربي-الإسلامي، بعيدا عن التداخلات الفارسية أو التغريبات الفلسفية.
وهكذا يبدو لنا "المسند" شهادة فكرية وتاريخية على نزعة إصلاحية عربية إسلامية، سعت إلى صيانة العقل من الغربة، وحفظ النص من عراقيل الثقافات الوافدة، واستعادة النص من براثن الجدل. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن فهم مشروع "المسند" خطوة ضرورية لفهم المذهب الحنبلي، ليس باعتباره منظومة فقهية فحسب، بل موقف ثقافي، وحركة إصلاحية.