هل يمكن حقا اختزال فلسفة حضارة مترامية مثل الحضارة الإسلامية في بضعة أسماء انشغلت بشرح كتب أرسطو؟ هذه هي الفكرة الشائعة التي وقعت فيها المؤلفات المدرسية حين حصرت "الفلسفة الإسلامية" في تيار صغير من علماء المسلمين تأثروا بتراث اليونان، بينما استبعد الإنتاج المعرفي العربي الذي تشكل في علوم اللغة والشريعة من دائرة الفلسفة ومفهومها.
على امتداد قرن كامل، ظل الفكر العربي أسيرا لمفهوم ضيق للفلسفة الإسلامية، يجعل المصطلح حكرا على ما ورثناه من اليونان: ميتافيزيقا مجردة، علل أولى، وجواهر ثابتة. تكرس هذا التصور بفعل القراءة الاستشراقية التي أعادت رسم خريطة الفلسفة على صورة التراث اليوناني، ثم وضعت فكر الحضارة الإسلامية في خانة "امتداد" أو "انعكاس" له، فالعالم المسلم لا يكون فيلسوفا إلا إذا شرح أرسطو أو أعاد إنتاج أفلاطون بلغة عربية، وما عداه -مهما كان عمقه- بقي خارج عباءة الفلسفة.
بهذا المنظور، ضيقت دائرة الفلسفة الإسلامية حتى اقتصرت على الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، ومن حذا حذوهم، في المقابل استبعدت النظم المعرفية العميقة التي صنعت العقل المسلم، مثل علوم النحو واللغة والفقه وأصوله وعلوم الحديث والبلاغة والكلام والعمران، فلم تسم هذه العلوم "فلسفة" لأنها لم تكتب بمعجم اليونان ولا بأسئلته، فأصبح المصطلح نفسه حاجزا يحجب حقيقة الإبداع العربي، بدل أن يكشفها.
لكن نظرة أوسع لمعنى الفلسفة تكفي لتقويض هذا الحاجز. فالفلسفة، في حقيقتها، ليست وقفا على أسئلة اليونان ولا على ميتافيزيقا التجريد. إنها طريقة في النظر، ومنهج في تحليل الظواهر، واستقصاء للعقل والسلوك والوجود. ولهذا فإن اختزال الفلسفة في شكل واحد- أرسطي أو أفلاطوني- يمنعنا من رؤية أشكال أخرى من التفلسف نشأت في سياقات ثقافية مختلفة، وبأدوات ومناهج لا تشبه النموذج اليوناني.
وفق هذا الفهم الأوسع، يتضح لنا أن بلاد العرب لم تكن أرضا خاوية من التفلسف كما تقول النظريات الاستشراقية التقليدية، فنحن حين ننظر خارج القوالب اليونانية، نرى أن الفلسفة العربية كانت حاضرة في صميم العلوم التي صاغت العقل المسلم. ففي النحو، شيد الفراهيدي وأتباعه نظرية متماسكة في العقل واللغة والدلالة، تقوم على القياس والعلة والاستقراء، وهي فلسفة للغة نشأت قبل أن يطرق منطق أرسطو أبواب الثقافة الإسلامية. وفي البلاغة، قدم عبد القاهر الجرجاني واحدة من أعمق الرؤى في نظريات المعنى في تاريخ الفكر الإنساني، عبر تحليل علاقة البنية بالمعنى والسياق.
بلاد العرب لم تكن أرضا خاوية من التفلسف كما تقول النظريات الاستشراقية التقليدية، فنحن حين ننظر خارج القوالب اليونانية، نرى أن الفلسفة العربية كانت حاضرة في صميم العلوم التي صاغت العقل المسلم
وفي الفقه وأصوله بنيت نظرية معرفية دقيقة تبحث في طبيعة الدليل، وطرق توليد الحكم، والعلاقة بين النص والواقع. وفي الحديث ظهرت مدرسة نقدية صارمة تبحث في طبيعة الخبر، وشروط اليقين والظن، والمصداقية البشرية، وهي في عمقها نظرية عربية للمعرفة. وهكذا تشكلت ملامح فلسفة عربية واسعة لا تحتاج إلى استعارة قاموس اليونان لتثبت وجودها.
وفي العلم التجريبي نجد ابن الهيثم ينقل الفكر المسلم من التأمل العقلي إلى البرهان التجريبي. وواجه بطليموس نقدا وتحليلا، وأسس في كتاب المناظر أول نظرية عربية للطبيعة تقوم على الفرضية والاختبار وإعادة التحقق. كان يشك في الحواس، ويختبر العقل بالمشاهدة، ويعيد تعريف المعرفة بوصفها نتيجة التجربة لا المقولات الجاهزة. ما فعله ليس علما فقط، بل فلسفة للعلم سبقت أوروبا بقرون، ووضعت أسس العلم التجريبي الحديث.
في الجانب الآخر نجد النموذج الأوضح للعقل الفلسفي العربي حين يتحرر من الميتافيزيقا اليونانية ليبني منهجه الخاص. يتجلى ذلك في شخصية ابن تيمية، ذلك الرجل الذي صنف في الخطاب الثقافي الشائع على أنه "ضد الفلسفة"، والحقيقة أنه كان ضد "الفلسفة اليونانية"، لا ضد التفلسف.
فهو بنفسه قدم نقدا جذريا للمنطق الأرسطي، واستبدله بمنهج عربي يقوم على الدليل والاستقراء واللغة. وهو بذلك يصوغ فلسفة معرفية تقوم على الوحي والفطرة والحس والتجربة، وفلسفة للوجود تنطلق من الواقع لا من الماهيات الذهنية. إنه فيلسوف عربي أصيل، لكنه لا يشبه الفلاسفة الذين اعتاد عليهم المستشرقون والحداثيون، فاستبعد من الدائرة لأنه لم يقتبس من أثينا.
إننا بحاجة إلى إعادة تعريف "الفلسفة الإسلامية" بوصفها مجموع الأنظمة الفكرية التي صاغت العقل المسلم، لا مجرد التيار الذي شرح كتب اليونان، وبهذا نتجاوز ثنائية "الفلسفة اليونانية" و"الفلسفة الإسلامية"، حينها يمكننا أن نرى الفعل الفلسفي العربي بكل وضوح في تعدده واتساعه، وفي قدرته على التشكل داخل الثقافة وفق حاجاتها وأسئلتها.
لقد انتج العقل العربي فلسفته الخاصة: فلسفة للغة، وفلسفة للمعنى، وفلسفة للتشريع، وفلسفة للرواية والخبر، وفلسفة للتجربة، وفلسفة للعمران. كل هذا كان فلسفة عربية إسلامية أصيلة، وإن لم تُسمّ بهذا الاسم.
والسؤال الذي ينبغي طرحه اليوم ليس "أين الفلاسفة المسلمون؟"، بل: كيف غاب عن أعيننا هذا الفعل الفلسفي الهائل الذي مارسه العلماء والمفكرون المسلمون في كل مجال؟".
إن إعادة الاعتبار لهذا الفعل تكشف أن الفلسفة ليست ملكا لثقافة دون أخرى، بل هي حركة العقل حين يتأمل ويحلل ويبتكر. وفي هذا الفعل، كان العقل العربي حاضرا بقوة
إن إعادة الاعتبار لهذا الفعل تكشف أن الفلسفة ليست ملكا لثقافة دون أخرى، بل هي حركة العقل حين يتأمل ويحلل ويبتكر. وفي هذا الفعل، كان العقل العربي حاضرا بقوة.