مُنع علي عنبة من الغناء ليلا في صنعاء فمات. هذه خلاصة قصة فنان شعبي يمني حاول أن يتكيّف مع واقع الحال ولم يستطع.
كان عِنَبَة أحد الفنانين في صنعاء الذين لا تكتمل الأعراس إلا بوجودهم. بعضهم كان يبدأ الغناء بعد الظهر في قاعات الزفاف، فيما البعض الآخر لم يكن يستطيع الغناء إلا مع مجيء الليل، ولهذا سُمِّي الواحد منهم فنان السهرة. وعادة ما يتلازم بحث العريس أو العروس عن شريكة أو شريك الحياة مع حلم أن يغني أحد الفنانين الشعبيين المشهورين في عرسهما، وخاصة في حفلة السهرة التي يرونها ليلة العمر، وفاصلا زمنيا بين حياتين لهما.
كانت هذه الحفلات مصدر رزق الفنان علي عنبة المميز بنبرة صوته النادرة، وظل لسنوات نجم نجوم الأغنية الشعبية، خاصة في صنعاء والمحافظات المجاورة لها، بسبب قربه من المزاج الشعبي اليمني الذي يعبّر عن الأسماء والأفعال دون تحرّج، فكانت أشهر أغاني بداياته "أخضر لقيت أخضر مُقيِّل تحت بيت الآنسي" والأخضر، كناية عن ذي اللون الأسمر.
وبالرغم من أن أكثر أغانيه تشكو من الحب و"بلواه"، فإن ذلك لم يمنع العرسان من دعوته للغناء في احتفالاتهم بلقاء أحبتهم. وعادة ما تتزامن إيقاعات ألحانه مع الرقصات الشعبية الشهيرة التي تؤدّى في الأعراس.
تعلّم عنبة (1979-2025) العزف على العود من أبيه وهو في السادسة من عمره، ولهذا عاش حياته كلّها للفن، ومع الفنانين من عائلته، وبالذات أخوية يحيى وبسام.
في الأشهر الأخيرة وجد الفنان نفسه ملزما بالصحو نهارا، محاولا أن يؤدي بعض حفلات الأعراس في النهار، بعد أن مُنعت الحفلات الليلية من قبل سلطة الميليشيات في صنعاء، لأن ذلك مخالف لما يسمونه "المسيرة الإيمانية"، لكن هذه الحفلات لم تتناسب مع مزاجه الليلي. وهناك سبب آخر لهذا الصحو غير المعتاد لديه، يتعلق بفساد الإدارة القضائية في اليمن، إذ صارت لديه قضية في المحكمة حول دَرَج في شارع صغير يؤدي إلى منزله. قال في تسجيل فيديو: "أنا علي عنبة، الفنان الشعبي المتواضع، صرت أحمل أوراق المقاضاة في المحاكم منذ خمس سنوات بدلاً من أن أحمل القصائد والأغاني".
وأضاف بألم أنه تعب جدا مع أن قضيته بسيطة "صرنا نفكّر نترك البيوت، نترك كل شيء ونبحث عن مكان نعيش فيه". وهذا ما حدث بالفعل، إذ سافر عنبة إلى القاهرة وهناك تلقّاه زملاؤه الفنانون بالرعاية، وصار عليه أن يصحو كل يوم مبكرا ليبحث عن سكن أفضل ومدارس لأطفاله. ورغم الأمل بحياة جديدة، لم يتحمل الغصة بعد فراق بيته وفنه، فمات بعد ثمانية عشر يوما فقط.
هكذا صارت اليمن تحت قسوة المتسلطين الجدد، تمارس الرقابة والمنع على الفنانين بطريقة لم يسبق لها مثيل
هكذا صارت اليمن تحت قسوة المتسلطين الجدد، تمارس الرقابة والمنع على الفنانين بطريقة لم يسبق لها مثيل. ففي البداية قامت سلطة صنعاء بمنع سهرات بعض الفنانين وسجن البعض الآخر، بسبب افتتاحهم سهرات الأعراس بالأناشيد الوطنية، مما اعتبر تحريضا غير مباشر على سلطتهم. ثم أصدروا توجيهات بتقييد حفلات تخرّج طلاب الجامعات، وتبعوها بمنع الاختلاط بين الجنسين في التعليم الجامعي.
أما بالنسبة لمنع الفنانين من إحياء الحفلات الليلية فقد أضر قرارهم بالكثيرين. ولأن الحفلات الفنية الاعتيادية لم تعد متاحة، فقد كان الفنانون يجدون في حفلات الأعراس فرصة لتقديم أعمالهم الفنية والتواصل مع "جمهورهم". إلا أن هذا التضييق أدى إلى هجرة معظم الفنانين إلى بلدان عربية وأوروبية، مثل حسين محب وإيمان إبراهيم وعبدالرحمن العمري وعمار العزكي ويوسف البدجي. حتى إن الممثلين صاروا يسجلون أعمالهم الدرامية في القاهرة وأماكن أخرى.
في الماضي، واجه الفنانون اليمنيون كثيرا من أساليب المنع والمصادرة لأعمالهم، سواء كانت غنائية أو درامية، وفي فترات مختلفة، إلا أن المغنين منهم لم يكونوا يتوقعون أن يأتي يوم يُمنعون فيه من الغناء في الليل، مع أن معظم تاريخ الغناء، إن لم يكن كلّه مرتبط بالليل، سواء في البلدان العربية أو في العالم.
والذي يعرف تاريخ الغناء في اليمن ومدى رحابة إبداعه يدرك أن ما يعيشه الفنانون حاليا لا سابق له في التاريخ اليمني.
مع تباين المواقف السياسية بين سلطة ميليشيا وأخرى، إلا أن معظمها تتفق على رؤية محافظة، وأحيانا متطرفة، تجاه الفن والفنانين، والأدب والأدباء أيضا
ويرجع ذلك إلى انتشار الميليشيات الدينية في مختلف مدن اليمن، ففي تعز هناك شيخ متخصص بالهجوم على فنان اليمن أيوب طارش، يؤول كلمات أغانيه بما ليس فيها. ولم يقلل هذا من مكانة الفنان لدى اليمنيين، خاصة وأنه ملحن النشيد الوطني وأحد رواد الأغنية اليمنية الحديثة. وسبق أن أحدث هذا الشيخ وأعوانه ضجة بسبب أغنية "مُش غلط نشرب سوى شاهي ونتمشّى شويّة". كما منع متشددون الفنانة ماريا قحطان من إحياء حفلة في مأرب، وكادت فتاة تفقد حياتها بسبب رقصة في عدن، وحدث ما يشبه ذلك في حضرموت بدعوى منع الاختلاط.ومع تباين المواقف السياسية بين سلطة ميليشيا وأخرى، إلا أن معظمها تتفق على رؤية محافظة، وأحيانا متطرفة، تجاه الفن والفنانين، والأدب والأدباء أيضا. وهم بذلك يحاولون تمثيل ثقافات وأيديولوجيات لم تكن قد ترسخت في المجتمع اليمني الذي كان يحفل بعشرات الفرق الموسيقية وفرق الرقص، وبالذات قبل حرب 1994.